رأي

نقطة تحوّل بارزة لفلسطين والدبلوماسيّة العالميّة

كتب فيصل ج. عباس, في النهار:

سيقول المُشككون طبعًا إن القرارات التي اعتُمدت والتصريحات التي أُدلي بها لم توقف سفك الدماء في غزة، كما أنها لم تُجبر إسرائيل على إنهاء احتلالها غير الشرعي.

لا يُبالغ المرء عند القول إن الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة شهدت حدثًا تاريخيًّا هذا الأسبوع خلال انعقادها في مدينة نيويورك، حيث شكّل ذلك موقفًا نابعًا من التحوّلات الجذريّة التي عايشناها على المستوى الدبلوماسي والأخلاقي والجيوسياسي. ولا يُعدّ هذا الزّخم الذي تولّد في الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة رمزيًّا فحسب، بل إنه أساسي ويتردّد صداه إلى ما هو أبعد من حدود مقرّ المُنظّمة.

سيقول المُشككون طبعًا إن القرارات التي اعتُمدت والتصريحات التي أُدلي بها لم توقف سفك الدماء في غزة، كما أنها لم تُجبر إسرائيل على إنهاء احتلالها غير الشرعي. وسأكتفي بالردّ على هؤلاء بكلمتين: “ليس بعد”. وبما انه لم ينجح مجلس الأمن التابع للأمم المُتّحدة بتنّي أي قرار بشأن هذه المسألة بسبب اللّجوء المُتكرّر إلى حقّ النقض. وبالتالي، يُعدّ ما حصل من أهمّ الحالات التي انتصرت فيها العدالة خلال السنوات الأخيرة، إذ يساهم في اقترابنا أكثر من قيام دولة فلسطينيّة، ويُبعدنا عن عقود ساد فيها الإفلات من العقاب.

وتُمثّل هذه التطوّرات إنجازًا بارزًا للدبلوماسيّة السعوديّة، حيث أثبتت المملكة من جديد قدرتها على الاستفادة من مكانتها الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة كقوّة دافعة لمصلحة الخير. وقد ساهم الأسلوب الدبلوماسي الهادئ والحازم للمملكة في ارتفاع عدد الدول التي تُقرّ بأن حلّ الدولتين قابل للتطبيق وضروري. ونرى الدول اليوم الواحدة تلو الأخرى تنضمّ إلى هذا المسار دعمًا للعدالة، من أمريكا اللاتينيّة إلى جنوب شرق آسيا، فيما يُشبه تأثير الدومينو.

عزّزت قيادة السعودية مكانتها كقوّة إقليميّة وكوسيط عالمي يعمل لإحلال السلام. وتتمتّع المملكة بالقدرة على إقناع الآخرين بالانضمام إليها من خلال الحوار والشراكات الاقتصاديّة والوضوح الأخلاقي، ما يعكس دورها المُتطوّر من حيث رسم معالم مُستقبل الشرق الأوسط. لم تعد السعودية اليوم كما كانت في الأمس، بل تحوّلت إلى دولة تتولّى بثقة دورها كجهة مؤثّرة عالميًّا.

تجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أهميّة الفرصة التي تُتيحها هذه التطوّرات للقوى الاستعماريّة السابقة، لا سيما فرنسا والمملكة المتحدة اللّتان وقّعتا على اتفاقيّة سايكس بيكو الشهيرة. وتجد هذه الدول اليوم نفسها أمام فرصة تسمح لها بتصحيح خطأ تاريخي ترك أجيالًا من الفلسطينيّين بلا دولة والمُعاناة تفتك بهم. وقد عادت لفرنسا على وجه الخصوص شعبيّتها، حيث كان من اللافت عدد الحاضرين الذين أوقفوا الرئيس إيمانويل ماكرون في نيويورك لالتقاط الصور معه والتعبير عن دعمهم له. كما انضمّت إلى هذا المسار بريطانيا، التي صدر عنها وعد بلفور، ما يُشير إلى تحمّلها أخيرًا مسؤوليّة إرثها الاستعماري. 

سيقول النقّاد طبعًا إن إسرائيل ستردّ الآن بشكل أكثر عدوانيّة. ولكن، فلنقارب الموضوع من منظور مُختلف ونطرح السؤال التالي: إلى متى سنستمر في استرضاء الوحش؟ لا تُعدّ هذه مسألة رأي، بل حقيقةً واقعة. ولا تزال إسرائيل تُعتبر مُحتلّةً للأراضي الفلسطينيّة بشكل غير شرعي وفقًا للأمم المتحدة والقانون الدولي. وبالفعل، ولّى زمن العبارات المُلطّفة والتحوّط الدبلوماسي.

سيقول آخرون إن حماس هي أيضًا وحش، وهم مُحقون في وصفهم هذا. ومع ذلك، دعونا لا ننسى أن العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة حذّرت كلًّا من الولايات المتحدة وإسرائيل من عواقب سياسة حزب الليكود القائمة على تعمُّد تمكين حركة حماس على حساب السلطة الفلسطينيّة. لا يُعدّ الاعتراف بفلسطين مكافأةً لحماس بأي شكل من الأشكال، بل إنه يلغي السبب الذي يُبرّر وجودها. كما يُؤكّد على شرعيّة السلطة الفلسطينيّة، والأهم من ذلك، على حقّ إسرائيل في الوجود. وتُشكّل هذه الخطوة ضربةً مزدوجةً تُعلي الأصوات المُعتدلة وتُضعف التطرّف.

سيقول البعض أيضًا إن الواقع على الأرض يجعل تنفيذ حلّ الدولتين مستحيلا. وأتشكّر هؤلاء على اهتمامهم بالموضوع، ولكن أحدًا لم يقل إن الأمر سيكون سهلا. لم أسمع أبدًا بأي اتّفاق سلام في التاريخ أُبرم بشكل سريع وبسيط ومباشر. يُعدّ تحقيق السلام مهمّةً صعبةً وتتطلّب شجاعةً وتنازلاتٍ ورؤية، إلّا أنها ليست بمهمّة مستحيلة.

نعم، يُعدّ الدعم الأمريكي لإسرائيل من التحدّيات القائمة. ولكن، يجب على العرب وجميع المؤمنين بالسلام والازدهار أن يتّحدوا ويعملوا مع واشنطن بدل الاكتفاء بالتذمّر. لسنا وحدنا هذه المرّة، إذ إننا نحظى بدعم العديد من الأصوات اليهوديّة الرافضة للإبادة الجماعية، من سياسيين إلى نجوم موسيقى البوب الذين يوحّدون صوتهم للمُطالبة بوضع حدّ لسفك الدماء. يستمرّ التحالف الأخلاقي بالنمو ويتّسم بالتنوّع.

يجمعنا اليوم الإيمان بإمكانيّة عيش شعبين جنبًا إلى جنب بسلام وازدهار.

وأختتم بالقول إن ما شهدته الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة لا يُعدّ إنجازًا دبلوماسيًّا فحسب، بل إنه كناية عن صحوة أخلاقيّة. ويُذكّرنا ذلك أيضًا بأن التاريخ لا يكتبه الأقوياء وحدهم، بل من يجرؤ على قول الحقيقة كما هي ويكون مُستعدًّا للسير على درب الحريّة الطويل والشاقّ.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى