نظرة العرب لألمانيا .. تحدٍ يواجه الحكومة المقبلة

كتب منصف السليمي, في صحيفة DW الألمانية:
يمكن رصد ستة مشاهد من صور ألمانيا المتباينة في العالم العربي، والتي ازدادت تعقيدا في ظل أزمات تعصف في السنوات الأخيرة بالمنطقة والعالم. فهل تبدو الطريق سالكة أمام الحكومة المقبلة لترميمها؟
من يتابع ردود الفعل المتباينة في العالم العربي على تصريحات ومبادرات وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك في نهاية ولاية حكومة المستشار أولاف شولتس إزاء قضايا أساسية في المنطقة، يمكنه أن يرى بشكل جليّ قمة جبل الثلج الذي تشكل لأعوام ماضية حول صورة ألمانيا لدى الشعوب والنخب ووسائل الإعلام في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل أيضا لدى الجاليات العربية في ألمانيا وأوروبا.
صورة ألمانيا ليست واحدة فهي متعددة، وهو ليس تعدد التكامل والتنوع فقط، بل تعتريه كثير من التناقضات والضبابية والتشويش لأسباب معقدة، نحاول أن نسلط عليها الضوء بهدف استشراف فرص تحسينها أو ترميمها في ظل الحكومة الألمانية المقبلة، مع الملاحظة مبدئيا بأن المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها بل هي ملقاة على مختلف مكونات المشهد السياسي والمجتمع المدني والاقتصاد والحقول الأكاديمية والإعلامية.
وفي انتظار اكتمال المشهد بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ومعرفة ملامح الشخصيات الرئيسية التي سيكون لها دور رئيسي في توجيه سياسة ألمانيا المؤثرة على صورتها في العالم العربي، مثل وزراء الخارجية والداخلية والعدل والدفاع، يمكن الانطلاق من وثيقة الائتلاف الحاكم المقبل ومن توجهات المستشار المقبل فريدريش ميرتس.
الصورة الأولى: موقف صعب إزاء نزاع الشرق الأوسط
اتسمت نبرة خطاب الدبلوماسية الألمانية خلال الأسابيع القليلة الأخيرة بصوت عال في الانتقادات التي توجهها لسياسة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وقد ظهر ذلك في الدعوة لوقف العمليات العسكرية وتمديد وقف إطلاق النار في غزة، وفي رفضها لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان، وفي انتقادات برلين للعمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وصولا إلى رفضها لخرق المجر وإسرائيل لمقتضيات مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكابه جرائم حرب في غزة.
ورغم ذلك ما تزال الدبلوماسية الألمانية تتلقى انتقادات في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والشارع وحتى لدى حكومات بالعالم العربي، بسبب دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل، والذي أخذ أشكالا متعددة منذ الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على إسرائيل.
وعللت ألمانيا مواقفها الداعمة لإسرائيل بحق هذه الأخيرة في الدفاع عن نفسها ضد حركة حماس، التي تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى كمنظمة إرهابية.
لكن الحكومة الألمانية، سواء المنتهية ولايتها أو المقبلة، تبدو في مأزق أولا بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. فألمانيا تدعم قرار المحكمة الجنائية الذي يقتضي اعتقال نتنياهو في حال زيارته ألمانيا، بيد أن ميرتس وعد بأن هذا لن يحدث مطلقًا في عهده كمستشار.
أما الوجه الثاني للتحدي، الذي تواجهه سياسة الحكومة الألمانية في الشرق الأوسط، فيكمن من ناحية عندما يحدث تقاطع بين المواقف الظرفية التي تتخذها مثلا عند انتقادها لسياسة الحكومة الإسرائيلية وبين موقفها المبدئي الداعم لإسرائيل بمقتضى المسؤولية التاريخية لألمانيا والسياق الخاص للعلاقات الألمانية الإسرائيلية، وقاعدة حماية أمن إسرائيل وحقها في الوجود كمصلحة أمنية عليا للدولة، التي باتت ثابتا من ثوابت السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، منذ اعتمادها في خطاب للمستشارة السابقة ميركل أمام الكنيست عام 2008 عبر استخدامها مصطلح “Staatsräson” أي “مصلحة عليا بالنسبة للدولة” (الألمانية).
وثمة بعدٌ ثانِِ للتحدّي الذي يواجه السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، يتمثل في الفجوة القائمة بين متطلبات الموقف الألماني المبدئي الداعم لإسرائيل وبين حفاظها على علاقاتها التاريخية ومصالحها مع الدول العربية ودورها في الدفاع عن حل الدولتين كقاعدة لتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. إذ تبدو معضلة السياسة الألمانية كبيرة بسبب سوء الفهم المتفشي لمواقفها في العالم العربي، وما يزيد الطينة بلّة هو رفض حكومة نتنياهو إقامة دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين.
وهو ما يلقي أعباء إضافية على أي حكومة ألمانية تسعى للحفاظ على صورة ألمانيا التاريخية كقوة سلام ووسيط موثوق، سواء بين إسرائيل والفلسطينيين أو بين إسرائيل ولبنان.
الصورة الثانية: معضلة ذات أبعاد داخلية
لا تقف أبعاد المعضلة الألمانية على صعيد السياسة الخارجية، بل تكتسي أبعاداً معقدة مثل النظرة السلبية لوسائل الإعلام الألمانية وتراجع “مصداقيتها” في منظور قطاعات من الرأي العام في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كما تظهر تداعيات سلبية لسياسة ألمانيا الشرق أوسطية على الصعيد الداخلي بألمانيا، في مستوى نظرة المهاجرين العرب والمواطنين الألمان المنحدرين من دول عربية. وقد ظهر ذلك في الأشهر الأخيرة بحدة في قضايا تتعلق بحرية التعبير والتظاهر، إضافة لموضوع اكتساب الجنسية الألمانية.
إذ حدث اصطدام بين نهج السلطات في حظر أي أنشطة تنطوي على مظاهر معاداة السامية وبين مبادرات وأشكال معينة في التعبير عن المساندة للفلسطينيين. كما تسبب ارتفاع منسوب الأنشطة العدائية ومظاهر معاداة السامية في مراجعات الأوضاع القانونية لمهاجرين أو حتى لحاملي الجنسية الألمانية. ومن المتوقع أن تستمر هذه المسألة في ظل اتجاه الائتلاف الحكومي الجديد لتشديد الإجراءات والتراجع عن بعض التسهيلات التي منحتها حكومة شولتس للحصول على الجنسية الألمانية. وهو ما يثير نقاشات قانونية وحقوقية، إذ لم تسلم ألمانيا من انتقادات منظمات حقوقية دولية بشأن تزايد مظاهر التمييز والعنصرية. كما يحتدم الجدل داخل المجتمع الألماني والأوساط الأكاديمية حول تأثيرات نزاع الشرق الأوسط.
إذ لاحظت دراسة أنجزها الباحثان شتيفان فوبل وياسمين المنور لفائدة مؤسسة بيرتلسمان الألمانية، أنه بالرغم من أن انتقاد إسرائيل لا يعدّ بالضرورة معاداةً للسامية، لكن في كثير من الأحيان، تُتبنى مواقف يُفترض أنها معادية لإسرائيل دون إدراك بُعدها المعادي للسامية، كما يقول خبير المؤسسة الألمانية في العلاقات الألمانية الإسرائيلية، شتيفان فوبل. من جهتها لاحظت الخبيرة في قضايا الأديان، الدكتورة ياسمين المنور أنه في بعض بلدان المنشأ للمهاجرين المسلمين، ترتكز معاداة السامية جزئيًا على أسس دينية. لذلك، ينبغي تعزيز تفسيرات الإسلام التي لا تُقسّم المجتمع، بل تُشكّل جسرًا بين الناس.




