رأي

نظام عالمي جديد “صناعة صينية”.

كتب خالد اليماني في إندبندنت.

تدور نقاشات واسعة في الدول الغربية محورها سؤال صعب، هل أخفق التنين الصيني في اختيار لحظة المواجهة لوضع نهاية للعصر الأميركي أم اعتقد أنه بات مؤهلاً للقيام بذلك في هذه اللحظة التاريخية؟ وما يترتب عن ذلك من أسئلة كثيرة حول طبيعة التغيير الدراماتيكي في المقاربة الصينية لعلاقاتها الكونية، وماذا حدث حتى تقدم الصين على رفع وتيرة المواجهة وفرد العضلات وتقديم مبادرات دولية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سعي حثيث إلى بناء نظام عالمي جديد.

صحيح أن متخصصي الاستراتيجيات في العالم يرون أن ثمة مؤشرات لولادة أقطاب إقليمية وازنة في العلاقات الدولية، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الصين يمكنها أن تقود النظام العالمي، وأن العصر الأميركي إلى زوال محتوم.

كثير من المراقبين للشأن الصيني يعيدون ما حدث في الصين من تغيير جوهري إلى شخص شي جينبينغ الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني الذي أمسك بزمام القيادة في 2012 ليطلق مشروعاً توسعياً صينياً غير مسبوق في الساحة الدولية، بعد عقود من انكفاء الصين على نفسها، وقبولها التحول إلى ورشة عمل للانتقال من دولة زراعية إلى التنين الصناعي بتعاون مع العالم الحر تحت سقف العولمة.

ربما كان دافع شي جينبينغ تلك الطفرة الهائلة لثروة البلد الذي كان ناتجه القومي الإجمالي 92 مليار دولار في 1970، ليصل في 2021 إلى قرابة الـ18 تريليون دولار.

بعد تفرده بالسلطة قرر شي جينبينغ أنه حان الوقت لوضع رؤية لترجمة ثلاثة عقود من جهد الصينيين للانتقال إلى عصر الهيمنة والنفوذ الاستراتيجي، وركزت رؤيته على إطلاق العنان للشركات الصينية في كل الاتجاهات شرقاً وغرباً تحت لافتة وحدة دول الجنوب ضد الظلم والاستغلال والنهب الغربي، واضعاً الصين في قيادة هذا التيار الشعبوي.

شي جينبينغ وعد خلال كلمته قبل أيام في قمة جوهانسبورغ لمجموعة “بريكس” أن العالم سيشهد حلول محركات نمو عالمية جديدة محل المحركات القديمة، وإعادة تشكيل عميق لنظام الحوكمة الدولية بعد أن وصل عالم اليوم إلى منعطف تاريخي حرج، مؤكداً أن أشياء جديدة ستحل محل الأشياء القديمة، في إشارة مستترة إلى نهاية عصر الغرب وبداية عصر الشرق بقيادة الصين.

ها هي الصين في الذكرى الـ40 لبدء إصلاحات اقتصاد السوق، وإلقاء الاقتصاد الشيوعي في سلة مهملات التاريخ، والانفتاح على الغرب، بقيادة الزعيم دينغ شياوبينغ، والتي حققت نمواً أسطورياً بمستويات الإنتاجية بفعل الاستثمار الرأسمالي على نطاق واسع والممول بمدخرات محلية ضخمة، واستثمارات غربية، تحاول القفز فوق حقائق التاريخ لتحقيق حلم ذلك الرجل الذي تنبأ قبل خمسة عقود بأن بلاده ستكون بعد خمس سنوات من اليوم قد أنهت عملية التحديث والسيطرة الاقتصادية والسياسية العالمية. فهل يفلح منطق التنجيم أم أن للتاريخ قولاً آخر؟

تباشير في الأمم المتحدة

في العام التالي لإمساكه بدفة الحكم، ومنذ عقد مضى بالتحديد حتى اليوم، أطلق شي جينبينغ مبادرة “الحزام والطريق” لبناء سوق كبيرة موحدة من خليط من الأسواق الدولية، وذلك عبر تطوير البنى التحتية في مختلف الدول لتسهيل الاستراتيجية التوسعية الصينية التي بدأت بوجه اقتصادي، إلا أنه سرعان ما ستنتهي بأوجه أمنية وعسكرية بامتياز.

في الحقيقة واجه مشروع “الحزام والطريق” منذ أيامه الأولى مخاوف دولية حول حجم الديون التي تترتب عنه لدى الدول الأفريقية والآسيوية، بما في ذلك مخاوف لدى الدول الأوروبية، وآخرها عزم إيطاليا الانسحاب من المبادرة حتى أطلق عليها مبادرة “الاستعمار الجديد عبر دبلوماسية فخاخ الديون”.

وفي تقدير المراقبين بدأ يخفت ذلك الدفق الصيني نحو المبادرة، فخلال عقد ونيف قدمت الصين قروضاً لـ100 دولة بقيمة 500 مليار دولار تقريباً، إلا أن أرقام الديون اضمحلت خلال العامين الماضيين لتصل 10 مليارات دولار فقط.

في كلمته أمام الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) قبل الماضي، عرض شي جينبينغ “مبادرة التنمية العالمية”، باعتبارها حجر الأساس في رؤية الصين لنظام عالمي بديل يقف في وجه النظام الذي تقوده أميركا والدول الغربية. وتطرح الصين مبادرتها تحت لافتة تحفيز التنمية، والتخفيف من الفقر، وتحسين الصحة العالمية في الدول النامية.

وفي وقت قصير ألحقت مبادرة التنمية العالمية بمبادرات تكميلية أطلقها شي جينبينغ مثل “مبادرة الأمن الدولي”، و”مبادرة الحضارة العالمية”، في ثلاثي يشكل أجرأ خطوات الصين لحشد دعم دول الجنوب خلف قيادتها، وتقديم الصين بديلاً للنظام العالمي الحالي.

الصين التي لم يعرف عنها مسبقاً اهتماماً كبيراً بحشد الدعم الدولي لسياساتها، على رغم أنها كانت وما زالت العضو الدائم في مجلس الأمن، لكن تأثيرها لم يكن في يوم من الأيام بمستوى تأثير الدول الأخرى دائمة العضوية.

قرار شي جينبينغ حرك الوفد الصيني في الأمم المتحدة ليندفع بقوة لحشد تأييد دول الجنوب عبر تمويل مبادرة خلق مجموعة داعمة لتطلعاتها الدولية في الأمم المتحدة، أو كما قال شي جينبينغ نفسه في منتدى بنيويورك خلال العام الماضي، إن الصين تتطلع لرفع صوت الدول النامية في النظام العالمي.

ومن أجل ذلك أنشأت الصين بدعم من قيادة الأمم المتحدة مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية الدولية، التي اتسعت عضويتها خلال فترة وجيزة لتصل إلى 70 دولة، وتصر الصين على إبقاء قائمة الدول المنضوية في مجموعة أصدقائها من دون إعلان، لكن المراقبين يشيرون إلى بضع دول أبرزها كمبوديا وباكستان وطاجيكستان وأوزبكستان وزيمبابوي، والتي باتت تصوت بنسبة 80 في المئة وما فوق لصالح الصين في كافة قرارات الجمعية العامة، وهي من بين الدول الأكثر تكبيلاً بالديون الصينية، وكلما زاد الولاء للصين زادت القروض السخية لتلك الدول، ولكنها في الأخير قروض وديون وليست هبات.

وتسعى الصين إلى توسيع مجموعة أصدقائها في الأمم المتحدة لتشمل الـ152 من قائمة الدول النامية في المنظمة الدولية، وإذا ما وصل حجم مريديها إلى هذا الرقم فستكون قد سيطرت على الغالبية العظمى من قائمة الـ193 دولة عضواً في المنظمة الدولية، لما لذلك من منافع ونفوذ كبيرين في السيطرة على التصويت، وفرض قراءاتها لقرارات الأمم المتحدة، ومن بينها دفاعها عن المبدأ الذي أطلقته باسم “الدبلوماسية المتعددة الحقيقية”، الذي تقول الصين إنه يدافع عن حق إعطاء وضع متساوٍ لكل الدول الأعضاء.

الصين بطرحها لهذا المبدأ إنما تتناقض مع ممارستها لموقفها من عملية إصلاح وتوسيع مجلس الأمن، حيث ترفض إعطاء أي من الدول المقترحة في التوسعة حق النقض الذي تتمتع به مع الدول الخمس دائمة العضوية، كما أنها ترفض انضمام الهند واليابان إلى مجلس الأمن الموسع باعتبارهما خصمين لدودين لها في آسيا.

سقف الطموح قصير

حقيقة أصبحت السياسة الاقتصادية والتجارية التي يتبناها شي جينبينغ أقل وهجاً وإقناعاً للشركات الغربية، فمحاولاته لتقديم الصين كشريك قوي وخصم خطر لم تعد تنطلي على كثر، وشعاراته حول صعود الشرق بقيادة الصين وأفول الغرب بات أمراً مشكوكاً به، وبدأ الحديث يتسرب إلى غرف الحوارات الاستراتيجية حول هيمنة بكين الاقتصادية التي تشهد تشققات جدية، فلم تتمكن الصين إلا من تحقيق نمو ضعيف في الناتج المحلي الإجمالي بعد سنوات من الإغلاق والقيود جائحة كورونا.

ويتوقع المراقبون مزيداً من التدهور لأزمة العقارات وزيادة البطالة بين الفئات الشابة إلى مستويات خطرة قد تصل إلى 50 في المئة، فيما يعيش قطاع الأعمال الخاص في قلق متزايد من سياسات التقييد الذي تفرضه الدولة على استثماراتهم، وإحجام المستهلكين عن الإنفاق، مع مؤشرات دنو أزمة كبيرة في الاقتصاد الصيني، وركود في نموه المستدام.

الأمر متصل بقدرة شي جينبينغ على مواصلة خطاب الترويج لرؤيته لاستكمال نبوءة “السيطرة الاقتصادية والسياسية العالمية”، وتعامل بكين غير المسبوق مع الغرب، مع ورود مؤشرات لسيطرة المتشددين على قيادة الحزب الشيوعي الصيني الذين يعمدون لإلقاء اللوم في مشكلات الصين على الغرب والولايات المتحدة بوجه التحديد، لتأجيج المشاعر القومية، وتشتيت الرأي العام، حيث أعاد آخر اجتماع للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، بحسب وكالة “شينخوا” الرسمية ما تواجهه الصين إلى عديد من المخاطر الخفية في المجالات الرئيسة، وبيئة خارجية قاتمة ومعقدة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى