نزوح غزة.. حين يصبح المدنيون وقوداً للصراع

كتب عبدالباري فياض في صحيفة العرب.
النزوح الجماعي في غزة ليس مجرد حركة سكانية بل كارثة إنسانية شاملة، تحوّل المدارس إلى ملاجئ مكتظة والمستشفيات إلى أهداف عسكرية، وتكشف حجم المأساة التي يعيشها المدنيون.
تتّشح غزة اليوم بثوب الألم، حيث تتجسد فصول مأساة إنسانية غير مسبوقة تُعيد إلى الأذهان صفحات النكبة التي حفرت جرحًا عميقًا في الذاكرة الفلسطينية. فمنذ بدء هذا العدوان، باتت الأقدام المثقلة بالخوف تروي حكاية شعب يُقتلع من جذوره، ليجد نفسه عالقًا في صراع لا ناقة له فيه ولا جمل. إن المشهد الأكثر إيلامًا هو ذلك النزوح الجماعي الذي يعكس هشاشة الوضع الإنساني، حيث تتدفق قوافل البشر إلى الجنوب بحثًا عن بصيص أمل يقيها جحيم القصف، تاركة خلفها بيوتًا تحولت إلى ركام، وذكريات باتت أثرًا بعد عين.
في خضم هذه الكارثة، يسارع الاحتلال الإسرائيلي إلى توظيف هذه المأساة لخدمة سرديته الخاصة. فمنذ اللحظة الأولى، تحوّل هذا النزوح المأساوي إلى ورقة ضغط سياسية وأمنية. تُقدّم الرواية الرسمية الإسرائيلية هذا التدافع البشري الهائل على أنه “مخاوف أمنية” من تسلل عناصر من “حماس” بين صفوف المدنيين. بهذا التوصيف، يختزل الاحتلال المدنيين في صورة “تهديد” أمني محتمل، متجاهلًا حقيقة أن الغالبية الساحقة من هؤلاء هم أفراد عائلات: أطفال ونساء وشيوخ، لا يملكون سوى إرادة البقاء. هذا الخطاب يبرر ويشرعن القمع والانتهاك، ويجيز استهداف تجمعات بأكملها بحجة وجود “أفراد” من المقاومة، مما يحوّل المدنيين إلى مجرد “دروع بشرية” في عيون الاحتلال، ويسهّل ارتكاب أبشع المجازر بحقهم.
المدنيون الفلسطينيون هم الضحايا الأساسيون للصراع يدفعون الثمن الأكبر لاستراتيجيات عسكرية متطرفة بينما حقهم في الحياة والأمان يجب أن يبقى فوق كل اعتبار بعيدًا عن الحسابات السياسية
إن تفكيك هذه السردية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية. فبينما يصرّ الاحتلال على حصر المشهد في إطار أمني بحت، تتكشف لنا جوانب مأساوية أخرى تعري حقيقة ما يجري. صحيح أن بعض الفصائل المسلحة قد تكون حاضرة في حركة النزوح، لكن هذا لا يغيّر حقيقة أن الغالبية الساحقة هم مدنيون يبحثون عن الأمان، وأن استهداف هذه الكتلة السكانية الكاملة يُعد عقابًا جماعيًا بكل ما للكلمة من معنى. إنها محاولة لتفريغ غزة من أهلها، وتدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وجعل الحياة مستحيلة في هذه البقعة من الأرض.
المدني الفلسطيني اليوم ليس طرفًا في المعادلة العسكرية، بل هو الضحية الكبرى. فبين مطرقة الاحتلال وسندان سياسات الفصائل المسلحة، يجد نفسه فاقدًا للمأوى، مهددًا في أمنه الغذائي، ومحروماً من أبسط حقوقه الإنسانية. المدارس التي كانت يومًا منارة للعلم، تحولت إلى مراكز إيواء مكتظة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، والمستشفيات باتت أهدافًا عسكرية، والمخاطر الصحية تتضاعف مع انتشار الأمراض والأوبئة. إن هذا النزوح لا يقتصر على كونه حركة فيزيائية من الشمال إلى الجنوب، بل هو كارثة اجتماعية وإنسانية تتجاوز الأبعاد الأمنية.
المأساة الجماعية التي يعيشها الفلسطينيون اليوم تلغي أي تفرقة بين شمال غزة وجنوبها. فالدمار لا يميز بين شارع وآخر، والقصف لا يفرّق بين بيت وآخر. الكل مستهدف، والكل معرض للموت في أي لحظة. إنها سياسة الأرض المحروقة التي يمارسها الاحتلال، والتي لا تترك أي مجال للشك في نية إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية والمادية. إن الإحصاءات والأرقام المروعة التي تُسجل يوميًا لا يمكن أن تكون مجرد أرقام، بل هي قصص وحكايات لأسر بأكملها مُحيت من السجل المدني، وأطفال حُرموا من مستقبلهم، ونساء ثكالى فقدن فلذات أكبادهن.
ولا يمكن القول إن المدنيين هم مجرد ضحايا ثانويين في هذا الصراع، بل هم ضحاياه الأساسيون والأولون، فهم يدفعون الثمن الأكبر لاستراتيجيات عسكرية لا تقيم وزنًا لحياتهم. فالاحتلال، عبر استخدامه للقوة المفرطة وتجاهله الفاضح للقانون الدولي، يتحمل المسؤولية الأكبر عن هذه الكارثة الإنسانية. في المقابل، لا يجب أن يُعفى أي طرف من مسؤولية ضمان سلامة المدنيين. إن نزوح غزة ليس مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل هو فصل جديد من فصول القهر، يؤكد أن المدنيين الفلسطينيين لا يجب أن يكونوا رهائن لسياسات أي طرف، وأن حقهم في الحياة والأمان فوق كل اعتبار.