رأي

نجاح لافت للدبلوماسية السعودية في إدارة الحرب وما بعدها

كتب مختار الدبابي, في العرب:

رغم التباين مع واشنطن في الموقف من إيران ورغبة الأميركيين في عزل طهران حافظت السعودية على قنوات التواصل معها كجزء من خطتها لإنهاء الحرب في اليمن ووقف عمليات التحالف العربي.

خرجت السعودية بأخف الأضرار من الحرب، وقد تكون أبرز مستفيد في الإقليم من طريقة إدارتها لتعقيدات التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران. وقابل السعوديون الضجيج الإعلامي والدبلوماسي والاتهامات التي توجه في كل اتجاه ببرود كبير، ولم يتخلفوا عن إبداء رأيهم في رفض الحرب ومعارضة استهداف إيران، كما استمروا لأكثر من ثلاث سنوات في انتقاد إسرائيل وإدانة استهداف المدنيين وتدمير غزة.

ظلت مواقف السعودية قبل الحرب وخلالها وبعدها هي نفسها، وكان المقياس الوحيد هو مصالح المملكة والحفاظ على المكاسب التي تحققت خاصة في مسار الحوار مع إيران. الكثيرون كانوا يعتقدون أن عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإشاداته بالقادة السعوديين في جولته الخليجية سيقابله السعوديون بالمجاملة بأن يدعموا موقفه من التهجير في غزة أو ضرب إيران، لكن الذي حصل أن الرياض حافظت على الفصل بين تحسين علاقتها مع واشنطن ومع ترامب قياسا بالبرود الشديد مع سلفه جو بايدن، وبين التزاماتها الإقليمية، ورؤيتها للأزمات، والأهم وزنها ومنزلتها في الإقليم كبلد محوري يضع مصالحه وسمعته قبل كل خيار آخر.

ورغم التباين مع واشنطن في الموقف من إيران ورغبة الأميركيين في عزل طهران، إلا أن السعودية حافظت على قنوات التواصل مع إيران كجزء من خطتها لإنهاء الحرب في اليمن ووقف عمليات التحالف العربي، وهي حرب استمرارها لا يخدم مصالح المملكة وخططها المستقبلية. المملكة تريد أن تستثمر قدراتها المالية في المشاريع العملاقة التي تحتويها رؤية 2030 التي أعلن عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وليس في شراء الأسلحة والإنفاق على الحرب.

◄ السعوديون كسبوا خلال الحرب في غزة والحرب بين إيران وإسرائيل نقاطا لصالحهم تجعل من بلدهم عنصرا أساسيا في أيّ تسويات قادمة في ملف غزة وفلسطين أو في الملفات الإقليمية الأخرى

ولم يكن الحوار مع إيران مرتبطا فقط بتفكيك مخلفات حرب اليمن وتبريد الجبهة الجنوبية وتأمين حدود المملكة. الحوار لم يكن ظرفيا أو مرتبطا بحدث، ولكنه يأتي ضمن مقاربة جديدة في المملكة تقوم على اعتبار أن العلاقة مع إيران لا تقوم بالضرورة على الصراع والعداء، وأن العمق الجغرافي يفرض على البلدين بناء علاقات مباشرة وتفكيك عناصر التوتر الثنائي والإقليمي لأن الاستقرار يخدم الطرفين في حين أن التصعيد السياسي والإعلامي والأمني سينتهي إلى نتائج عكسية ويمنع الدولتين المؤثرتين في الإقليم من التفكير في المستقبل وتطوير الاقتصاد والاستثمار في مشاريع عملاقة والتهيؤ لمرحلة ما بعد النفط.

التهدئة لم تكن حاجة سعودية فقط. إيران نفسها في حاجة إلى هذه التهدئة من أجل كسر العزلة المفروضة عليها دوليا خاصة أن دول الخليج سبق أن وقفت في صفها أيام العقوبات الأميركية القاسية.

ويحقق هذا الخيار عدة نتائج مباشرة أهمها كبح السباق نحو التسلح وزيادة الإنفاق بشكل مؤثر وعلى حساب القطاعات الأخرى وخاصة المشاريع العملاقة التي وضعتها السعودية. وهو إلى ذلك يسحب البساط من تحت أقدام الجهات الغربية وشركات السلاح التي تسعى إلى توسيع دائرة التوتر والاستنفار في المنطقة لرهن دول الخليج لأجنداتها وشروطها.

مع الإشارة إلى أن جزءا من مبررات القرار السعودي في الانفتاح على إيران هو التحرر من الضغوط والابتزاز وبدا ذلك بجلاء في مرحلة بايدن حين هددت الولايات المتحدة بنقل منظوماتها الدفاعية نحو شرق آسيا غير عابئة بأمن الخليج، في الوقت الذي كانت فيه السعودية تحتاج هذه المظلة لصد هجمات الحوثيين على منشآت النفط.

لقد كان الابتزاز الأميركي الفج أحد مبررات الاستدارة السعودية الكلية في الانفتاح على إيران والحوار معها على قاعدة العمق الجغرافي والتاريخي والمصالح الإستراتيجية للإقليم، إضافة إلى خيار تنويع الشركاء الاقتصاديين والعسكريين وكف احتكار الشركات الأميركية للمشاريع الحيوية في المملكة والخليج تحت مظلة الشراكة الإستراتيجية، لكنها شراكة من جانب واحد.

ويحقق الانفتاح على إيران نتائج أخرى ذات أهمية على المديين القريب والمتوسط منها تخفيف الاحتقان المذهبي في المنطقة وتحييد شيعة المملكة والخليج ككل عن الصراعات وتثبيت ولائهم لدولهم وقطع الطريق أمام إثارة معارك ساكنة في التاريخ. وأولى النتائج الإيجابية لهذا الخيار ظهرت في الموسمين الأخيرين للحج باستقبال الحجاج الشيعة من إيرانيين وعراقيين وغيرهم من دون توترات أو احتقان.

لقد نجحت القيادة السعودية بخيار الحوار مع إيران في إغلاق أحد الملفات المقلقة والتي تهدد بعرقلة مسار التغيير الكبير في المملكة وفق رؤية ولي العهد.. كما أنها نجحت في حماية وتأمين مستقبل السعوديين والمنطقة على المدى البعيد بمنع استنبات العداءات الطائفية والمذهبية.

ومن جانب ثان مهم لم تنجر السعودية للتطبيع تحت ضغط الحرب واستعراض القوة، رغم حرص الأميركيين والإسرائيليين على ذلك كأحد مكاسب الحرب بالنسبة إليهم. الإسرائيليون يقولون إن ما حققوه من نجاحات عسكرية في غزة ولبنان واليمن وضد إيران يوفر فرصة ثمينة لعقد صفقة شاملة تنهي الحرب في غزة مقابل تنشيط مسار الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل سوريا ولبنان وعيونهم على السعودية باعتبار أهميتها الإستراتيجية والرمزية مراهنين على أن نتائج الحرب ستغير التوازنات والمواقف.

◄ رغم التباين مع واشنطن في الموقف من إيران ورغبة الأميركيين في عزل طهران، إلا أن السعودية حافظت على قنوات التواصل مع إيران كجزء من خطتها لإنهاء الحرب في اليمن ووقف عمليات التحالف العربي

لكن السعودية لم تغير موقفها، فهي ما تزال تشترط وقف الحرب في غزة وتنشيط الحوار بشأن عملية السلام وفكرة حل الدولتين التي تضمنتها المبادرة العربية للسلام في 2002، التي هي بالأصل مبادرة سعودية. وتوقف إحراز تقدم نحو اعتراف السعودية بإسرائيل بسبب الغضب إزاء الحرب الدائرة في غزة، إذ لا يقبل السعوديون لأنفسهم ببحث مسار للسلام مع إسرائيل في ظل وضع يبدون فيه وكأنهم يقبلون بما لا يريدون تحت الضغط.

كما أن إسرائيل لا ترسل أيّ إشارات عن رغبتها في “الأخذ بالخاطر” والاستجابة للقلق السعودي، والعربي عموما، بشأن وقف ما يجري في غزة، فهي تريد تطبيعا تحت القصف، وهو ما لا تقبل به المملكة ويمسّ من صورتها ومصداقيتها في الإقليم، بالنسبة إلى قضية مركزية عربيا وإسلاميا. الأميركيون أنفسهم باتوا يقدرون موقف الرياض ويرون أن الوضع غير ملائم لها لإعلان التطبيع، فيما تتساءل السعودية عن معنى فتح باب خيار إستراتيجي يقوم على بناء سلام سياسي وأمني واقتصادي وإستراتيجي مع جهة لا ترى من حولها وتفكر بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان وتطالب الآخرين فقط بتقديم التنازلات.

ورفض التطبيع تحت القصف والاضطرار يكسب موقف السعودية مصداقية عربية وإسلامية ويثبت دورها كقوة وازنة في الإقليم تتحرك وفق خططها وتقديراتها وليس وفق الضغوط أو ردات الفعل.

لقد وفّرت الحرب وما أحاط بها من جدل سياسي بشأن قائمة المستفيدين الفرصة للسعودية لتقول إنها موجودة ومؤثرة حتى وإن اتسم خطابها بالهدوء ولم يتجاوز تصريحات قليلة مختصرة وواضحة، ففي الأحداث الكبرى المطلوب هو الوضوح وليست كثرة الكلام التي تخفي إحساسا بالتراجع والضعف ومحدودية التأثير.

كسب السعوديون خلال الحرب في غزة والحرب بين إيران وإسرائيل نقاطا لصالحهم تجعل من بلدهم عنصرا أساسيا في أيّ تسويات قادمة في ملف غزة وفلسطين أو في الملفات الإقليمية الأخرى، وحتى وإن لم تكن السعودية شريكا مباشرا في التسوية كما في لبنان، فإن الجميع في حاجة إليها من أجل تحويل التسوية على الورق إلى تسوية على الأرض من خلال تقديم الدعم وضخ الاستثمارات. لكن المملكة تغيرت ولم تغدق لإنجاح تسويات تصب في صالح الغير كما كان يحصل في لبنان على وجه الخصوص.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى