كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
“«أعطني حقّي… أعطِك حقّك”». جملة على إحدى اللافتات التي عُلّقت على أبواب وزارة التربية في أول أيام الإضراب الأخير لموظفي القطاع العام الذي تمّ تمديده حتى يوم الجمعة المقبل كخطوة تصعيدية إلى حين استعادة المطالب.الحق، طبعاً، يعلو ولا يُعلى عليه. لكن إذ نشهد على آخر انهيارات الجسم القضائي (المعني الأول بإحقاق الحقوق)، باتت كلمة «حق» حمّالة أوجه… كثيرة. لكن تبقى صرخة موظفي القطاع مفهومة وأزمتهم جزء من أزمة لبنان. فهل هو جحيم سلسلة الرتب والرواتب يربض على صدورهم وصدورنا؟
يبلغ عدد مؤسسات القطاع العام 115 وعدد موظفيه حوالى 320 ألفاً. والقطاع يتأرجح بمسار انحداري مع البلد منذ العام 2020، وما قبله. توقّفات تدريجية عن العمل أو إضرابات شاملة، لا فرق. ثمة موظفون يرفضون العودة إلى العمل حتى تحقيق المطالب، وآخرون يؤمّنون الحضور ليوم أو ليومين أسبوعياً بحسب ما يتلاءم مع قدراتهم المادية. والمحصّلة: مؤسسات خارج الخدمة، مرافق متوقفة عن العمل، ومواطن، بما تبقى له من صبر، «ناطر الله والفرج». الالتزام بإضراب الأسبوع الماضي كان شبه تام. فعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدت الإدارات العامة والدوائر الرسمية في عاليه ومرجعيون والهرمل وزحلة والكورة وطرابلس والنبطية والجنوب إقفالاً تاماً الأسبوع الماضي. كما أقفلت المنطقة التربوية أبوابها في بيروت والجنوب التزاماً بالإضراب، وانضمت إليها إدارات الأشغال والاقتصاد وأمانة السجل العقاري والمساحة في الجنوب، ودوائر المالية والعمل والاقتصاد في النبطية. أما إدارات التنظيم المدني، العمل، الصناعة، الزراعة، النفوس والمال، فاكتفت بحضور الموظفين مع امتناعهم عن استقبال المعاملات، في حين قامت تعاونية الموظفين بفتح أبوابها لتسيير مشاكل المواطنين الصحية. فكيف لعجلة البلد- إن بقي من عجلات، أو بلد، أصلاً- أن تدور؟
إستهداف مزدوج
رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة، نوال نصر، وصفت لـ»نداء الوطن» ما يحدث بالحرب الوجودية التي تستهدف موظفي الإدارة العامة كجزء من هدف أكبر، وهو الإدارة بحدّ ذاتها. ورأت نصر أن «التعديلات التي أُدخلت ضمن القانون رقم 717/1998 واستُكملت في سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 والانهيار الذي لحق برواتب الموظفين من دون أن يرفّ لأي مسؤول جفن، خير دليل على ذلك».
فما هي تلك التعديلات؟ نعود بالزمن إلى الوراء. وتحديداً إلى القرار رقم 363 بتاريخ 16 آب 2001 الذي قضى بتعيين مدراء عامين من خارج الملاك الإداري، إذ كان يكفي حصول هؤلاء على إجازة جامعية، أياً كانت، حتى لو لم تراعِ متطلبات المديرية العامة التي يتولّون إدارتها. طبعاً، ثمة من يتذكّر. فذلك القرار كان المدخل السهل لولوج القوى السياسية الإدارات والإمساك بمختلف مفاصلها وحرمانها من خبرات الموظفين من الفئتين الثانية والثالثة، كما حرمان هؤلاء من تولّي الوظائف التي يستحقونها خبرة وكفاءة.
ليس هذا وحسب. فالقضم التدريجي والممنهج لحقوق الموظفين المادية، كتعديل نظام سلّم الدرجات، قد حرم الكثيرين من عدد لا بأس به من درجات أقدميتهم وما يستتبعها من حق مالي. ماذا أيضاً؟ «تخفيض نسبة احتساب المعاش التقاعدي من 100% إلى 85% دون تخفيض الحسومات على الرواتب، إلغاء تعويض التفرّغ لأجهزة الرقابة، تجميد قيمة التعويضات العائلية على أساس الحد الأدنى للأجور السائد في التسعينات، وكان ختامها مع ضرب قدرة الموظف على الالتحاق بعمله، ما دقّ المسمار الأغلظ في النعش الذي يُحضَّر للقطاع العام»، كما تجيب نصر. هذا مع الإشارة إلى الشغور في الإدارات العامة الذي بلغ نسبة 71% لا سيما في وظائف الفئات العليا الثلاث، والذي يؤدي إلى حالات تكليف فئات أدنى بوظائف أعلى ما يؤثر سلباً على حسن سير العمل.
الشواغر أصبحت قاعدة
غياب الآليات والقدرة على محاسبة الوزراء المعنيين كان له الأثر البالغ هو الآخر على صعيد تدهور القطاع بكافة مؤسساته. فالإدارات والمرافق العامة تحوّلت إلى استثمارات خاصة للمسؤولين. في هذا السياق تشرح نصر كيف انعكس ذلك على أجهزة الرقابة التي أفرغت من الكادر البشري. وهذه جولة بالأرقام على المفتشيات العامة في التفتيش المركزي: يضم التفتيش الطبي حالياً مفتشاً صحياً واحداً من أصل 6 مفتشين (عدد الشواغر 5)؛ أما التفتيش المالي فيضم 8 مفتشين ماليين من أصل 36 (عدد الشواغر 28)؛ في حين أن التفتيش الهندسي يضم 10 مفتشين هندسيين من أصل 30 (عدد الشواغر 20). ثم هناك التفتيش الإداري الذي يضم 19 مفتشاً إدارياً من أصل 30 (عدد الشواغر 11)؛ وأخيراً يضم التفتيش التربوي 42 مفتشاً تربوياً من أصل 100 (عدد الشواغر 58).
والوزارات ليست أفضل حالاً. فوزارة الاقتصاد، مثلاً، تضم حالياً في جهازها الرقابي 90 مراقباً من أصل 220 ملحوظين في ملاكها، عليهم مراقبة آلاف المؤسسات المنتشرة على كافة الأراضي اللبنانية. «هؤلاء الموظفون يجوبون المناطق اللبنانية، متقاضين 195 ليرة لبنانية عن الكيلومتر الواحد في حين، بحسب أرقام الدولية للمعلومات، بلغت كلفة الكيلومتر الواحد 6211 ليرة، وذلك في تشرين الثاني 2022، أي قبل آخر جولات الارتفاع الجنوني للدولار»، تضيف نصر. وتتابع: «كافة موظفي الدولة يتقاضون بدل حضور يومي بقيمة 95 ألف ليرة، في حين أن تكلفة هذا الحضور تخطت مئات الآلاف».
صدى المطالب
رأي عضو رابطة موظفي الإدارة العامة، المهندس ابراهيم نحال، لا يختلف كثيراً. فقد اعتبر أن أزمة القطاع العام تتفاقم على كافة المستويات إذ، إضافة إلى تدني القيمة الشرائية للرواتب (حوالى 97%) والعجز عن تأمين الحدّ الأدنى من الغذاء وصعوبة تأمين الدواء والاستشفاء والأقساط المدرسية كما ارتفاع أسعار المحروقات، جاء رفع سعر صيرفة إلى 38 ألف ليرة ليفقد راتب الموظف 22% من قيمته. كما أشار إلى عدم رضى الموظفين عن الحلول التي وصفها بالترقيعية. فما المطلوب إذاً؟ أن يتوحد موظفو القطاع العام حول المطالب نفسها، أولها تصحيح الرواتب والأجور لكافة الموظفين في الخدمة كما للمتقاعدين بما يتناسب مع غلاء الأسعار ونسبة التضخم كما دولرة الرواتب والرواتب التقاعدية وتعويضات الصرف ولو على مراحل. فالزيادات التي أُقرّت في موازنة 2022 فقدت أكثر من 50% من قيمتها مقابل الدولار في أقل من 4 أشهر. كما يطالب هؤلاء برفع قيمة التقديمات الاجتماعية والاستشفائية في تعاونية موظفي الدولة والضمان الاجتماعي.
وفي ما خص تعويضات الصرف تحديداً، تقترح نصر دمج كل ما يتأتى من زيادات ومساعدات في صلب الراتب، ما يؤدي حكماً إلى إصلاح قيمة التعويضات للذين ما زالوا في الخدمة. أما بالنسبة لمعضلة الطبابة والاستشفاء، فقد ناشدت بضرورة تحقيق الرقابة على الأسعار بدءاً من دول المنشأ وتحديد هامش مشروع للربح للشركات المستوردة والمستشفيات، كما استيراد كافة المستلزمات الطبية والاستشفائية والأدوية من قِبَل وزارة الصحة مباشرة أو الصناديق الضامنة بما لديها من استقلالية مالية ووفقاً للأصول القانونية، ما من شأنه تخفيض الكلفة. لكن هل من إرادة أو قدرة على ذلك، نسأل؟
… إتّحدوا!
ليس خافياً أن الإدارة العامة تمرّ بأسوأ مراحلها. كيف لا وهي مرآة عاكسة لحال البلد المزرية. فالمواطن الذي ينتظر دوره لساعات وأيام قبل تسيير معاملاته، والدولة التي تخسر ما يقدَّر بـ12 مليار ليرة يومياً من عائدات لخزينتها وهجرة عدد كبير من الموظفين، كلها نتائج تستدعي وضع خريطة طريق جدية لإنقاذ واقع الإدارة الأليم. فمن أين نبدأ؟ «اعتماد الحوكمة الإلكترونية وإقامة دورات تدريبية للموظفين وملء الشغور في الإدارة، وتثبيت المتعاقدين والأجراء من خلال مباريات محصورة في مجلس الخدمة المدنية ومحاربة الفساد عبر تفعيل عمل الأجهزة الرقابية هو المدخل إلى الحل»، على حدّ قول نحال. فعلى الدولة أن تضطلع بدورها الطبيعي في استعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج، ووقف الهدر والفساد، كما استعادة الأملاك البحرية والنهرية من مغتصبيها وتغريمهم ومحاكمتهم، كذلك وقف الهبات والمساعدات للجمعيات الوهمية ووقف التهرّب الضريبي والجمركي والإعفاءات الضريبية والجمركية للشركات الكبرى.
لكن المطالب شيء وتوحّد كافة المتضررين في أكبر تحالف اجتماعي للنضال من أجل تحصيل الحقوق المسلوبة من قوى السلطة السياسية والمالية المتمثلة بحيتان المال وجمعية المصارف، شيء آخر. فالأخير شرط شارط في رحلة الكفاح، من وجهة نظر نحال. والعامل الأهم للشروع بإعادة البناء يتمثّل، بحسب نصر، بضرورة تطوير أساليب العمل وإرساء الشفافية وبضرورة إعادة هيكلة القطاع العام وإلغاء المؤسسات والصناديق التي انتهت مهامها، وتلك التي تتداخل مهامها وتتشابك مع مهام الإدارات العامة. ولا بدّ من إجراء «محاسبة إدارية ومالية وكشف السرية المصرفية وتطبيق قانون الإثراء غير المشروع ومبدأ «من أين لك هذا»، على كل من شغل ويشغل وظيفة عامة وكل من تقاضى ليرة من المال العام». المحاسبة. لنتذكّر هذه العبارة جيّداً.