أبرزرأي

موت الديمقراطية

كتب ديفيد بروكس في صحيفة نيويورك تايمز.

عام 2020، حقق الديمقراطيون في الانتخابات فوزاً حاسماً. وبدورهم، فعلوا ما تفعله جميع الأحزاب المنتصرة: أقروا تشريعات تتناسب مع أولوياتهم، بما في ذلك زيادة الدعم المالي للتأمين الصحي لأبناء العائلات، التي تكسب أكثر من 400% من خط الفقر. وقد صاغوا القانون بحيث تنتهي هذه الإعانات عام 2025.

عام 2024، أحرز الجمهوريون في الانتخابات فوزاً حاسماً. ومن جديد، فعلوا ما تفعله جميع الأحزاب المنتصرة: أقروا تشريعات تتناسب مع أولوياتهم، بما في ذلك السماح بانتهاء صلاحية إعانات التأمين الصحي التي أقرها الديمقراطيون كما كان مخططاً.

لو كان الديمقراطيون حزباً طبيعياً يؤمن بالمبادئ الديمقراطية، لكانوا خططوا للوقوف أمام الناخبين في الانتخابات المقبلة ليقولوا: «هذه السياسات الجمهورية فظيعة! عليكم أن تصوتوا لنا!».

إلا أنه بطبيعة الحال، هذا ليس ما قرر الديمقراطيون فعله. بدلاً من ذلك، قرروا إغلاق الحكومة. لماذا فعلوا ذلك؟ لأننا لا نعيش في ديمقراطية صحية، وإنما نعيش في بلد تحتضر فيه الأعراف والمعتقدات والممارسات التي تُبقي على الديمقراطية، حتى في عقول كثير من الأشخاص الذين يزعمون أنهم يعارضون دونالد ترمب.

من جهته، كتب دانيال باتريك موينيهان ذات مرة مقالاً بعنوان «تخفيف تعريف الانحراف». دارت فكرته الأساسية حول أن الناس، عندما يزداد السلوك المنحرف، يبدأون في إعادة تعريفه بوصفه سلوكاً طبيعياً.

وهذه تحديداً الفكرة التي يدور حولها هذا المقال.

داخل ديمقراطية تعمل بشكل سليم، يتمثل أول رد فعل للسياسي في التوجه إلى الناخبين وترك القرار لهم. أما في ديمقراطية مريضة، فأول غريزة للسياسي تتركز في فكرة تجميع السلطة بأي وسيلة ممكنة. وداخل الديمقراطية الصحية، يلتزم السياسيون سلسلةً من القيود الرسمية وغير الرسمية؛ لأنها تخدم الصالح العام. أما في الديمقراطية المريضة مثل ديمقراطيتنا، فكل القواعد والترتيبات اللائقة يجري تدميرها، ويصبح كل شيء مباحاً. الواضح أن ترمب يدمّر الأعراف الديمقراطية. وقد قرر الديمقراطيون أن يلحقوا به إلى القاع. وعندما يتعاون الحزبان في تقويض الأخلاق العامة، لا أحد يلاحظ حتى حدوث ذلك.

جدير بالذكر أن مسألة إغلاق الحكومة أصبحت لافتة خلال إدارة كارتر. وفي عهد إدارة ريغان، لم تستمر أكثر من يوم أو اثنين. وحرص قادة كلا الحزبين على تجنب مواجهة غضب الناخبين، الذين سيتملكهم الغضب إزاء هذا المستوى من الجمود وعدم الكفاءة.

أما اليوم، فنحن نعيش الإغلاق العشرين (الأمر يختلف حسب طريقة العد)، ولا أحد يهتم. ومع ذلك، لا يتكبد أي من الحزبين ثمناً سياسياً كبيراً؛ لأن الشعب فقد ثقته بالحكومة. ولم يعد هناك ما يثير الصدمة؛ لأنه لم يتبقَّ أي معيار أخلاقي قائم. دعوني أحاول أن أشرح مدى تغلغل حالة فقدان الثقة تلك بالعقلية الأميركية. عندما قرر الديمقراطيون إغلاق الحكومة، كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك احتجاجاً على هجوم ترمب غير المسبوق على الديمقراطية، إلا أنهم بدلاً من ذلك، قرروا أن يركّزوا رسائلهم على مسألة وقف إعانات التأمين الصحي. لماذا فعلوا ذلك؟ لأنهم حسبوا أن الشعب الأميركي لم يعد يهتم بانهيار الديمقراطية. لقد استمر هذا التدهور فترة طويلة لدرجة أن الناخبين باتوا غير مبالين تماماً.

في الواقع، هناك أسباب وجيهة لاعتقاد أن الأميركيين ببساطة لا يهتمون بحقوقهم الديمقراطية. على سبيل المثال، تقوم عدة ولايات حالياً بإعادة رسم خرائط الدوائر الانتخابية للكونغرس بطريقة تهدف إلى القضاء على التنافس الحقيقي في الانتخابات. إذا كنت تعيش في تكساس أو كاليفورنيا، غالباً لن تكون مضطراً للتصويت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026؛ لأن خرائط الدوائر ستُرسم بطريقة تجعل نتائج انتخابات مجلس النواب محسومة سلفاً. وبحلول ذلك الوقت، ربما تكون قد حُرمت فعلياً من حقك في التصويت.

أعتقد أنني لم أكن أُقدِّر كم تعتمد الديمقراطية على الناس العاديين في الدفاع عن حقوقهم وسلطاتهم ضد النخب التي تحاول اغتصابها. في هذه الأيام، يبدو أن الناس مستعدون للتنازل عن حقوقهم وسلطاتهم بكل سرور إذا ما وجدوا زعيماً قوياً – رجلاً أو امرأة – مستعداً لتولي هذه المسؤولية عنهم. ويبدو أن هذه النزعة جزء أكبر من الطبيعة البشرية مما كنت أظن.

على سبيل المثال، عندما بدأتُ تغطية الكونغرس في التسعينات، كان يمكن لأعضاء الصفوف الخلفية تمرير تشريعات، إذا كانت لديهم أفكار جيدة وبعض الروح الريادية. آنذاك، كانت اللجان الكونغرسية ورؤساؤها لا يزالون يتمتعون بسلطة حقيقية. كانت السلطة موزعة، كما هو متوقع في نظام ديمقراطي سليم. إلا أنه على مدار 30 عاماً على الأقل، بدا أن أعضاء الكونغرس راضون تماماً عن التنازل عن سلطاتهم. بادئ الأمر، تنازلوا عنها لصالح القيادات الحزبية، حتى أصبح 4 أشخاص فقط يديرون الفرع التشريعي بأكمله. بعد ذلك، تنازلوا عن السلطة لوكالات الفرع التنفيذي، وباتت القرارات الكبرى تُتخذ من قبل موظفين حكوميين غير منتخبين.

الحقيقة المؤلمة أن كثيراً من الأميركيين لا يعدون مبادئنا التأسيسية شيئاً مقدساً؛ لذلك لا يغضبون حين يُداس الدستور – ما دام الطرف الذي يقوم بالدوس «طرفهم».

دعوني أصف أمراً قد يبدو تافهاً لكنه، في رأيي، يقع في صميم الانحلال الذي نعيشه: ميل السياسيين لاستخدام كلمة «القتال» في خطاباتهم. لاحظت هذا النمط لأول مرة عندما ترشحت هيلاري كلينتون للرئاسة. كانت تعد دائماً بأنها ستُقاتل من أجل الأميركيين من أبناء الطبقة الوسطى. في ذلك الوقت، لم يزعجني الأمر كثيراً؛ فقد كانت امرأة تترشح لمنصب لم يشغله سوى رجال، وكان عليها أن تُظهر قوتها. والآن، أصبحت خطابات «القتال» منتشرة في كل مكان.

لم يعد هذا مجرد استعارة. إنه أصبح عقلية. لدينا الآن عدد كبير من الأشخاص في هذا البلد لا يؤمنون بأن الديمقراطية تعني إقناع الآخرين، بل يرونها معركة: سحق الآخرين وتدميرهم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى