من يكسب الحرب في أوكرانيا؟
كتب محمد فريحات في “العربي الجديد”:
يسود اعتقاد واسع بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يتوقع حجم العقوبات التي تعرّضت لها بلاده لإقدامه على غزو أوكرانيا. لا بل يذهب بعضهم إلى المجادلة في أن أوكرانيا كانت فخّاً غربياً لرجل الكرملين، لاستنزافه فيها، ما يسهّل القضاء على دوره منافسا للولايات المتحدة في النظام الدولي. لن تدخل هذه المقالة في محاكمات بشأن ما كان يختمر في ذهن بوتين عند اتخاذه قرار الغزو، ولكن يمكن تقييم المؤشّرات المتوفرة لدينا بعد خمس أشهر من بدء الحرب، والتي تفيد بأن روسيا قد حققت مكاسب استراتيجية، في حين أن المكاسب التي حققها الغرب تكتيكية مرحلية، لا تؤثر على النتيجة النهائية للحرب.
نعم، كان الثمن باهظاً الذي قام الغرب بتدفيعه لبوتين منذ بدء الحرب، وبشكل محدّد في الجانبين الاقتصادي والبشري، أي عدد القتلى من الجيش الروسي الذي يُعتقد، حسب وكالة المخابرات المركزية الأميركية، أنه وصل إلى 15 ألف جندي. والعقوبات الاقتصادية هي الأقسى التي تُفرض على روسيا، رغم أن تأثيرها المباشر على الاقتصاد الروسي لم يظهر بعد. انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو مكسب مهم، وخسارة معتبرة لروسيا، بانتقال دولتي الجوار من معسكر الحياد إلى حلف المعسكر المعادي، رغم أن دخولهما في “الناتو” لم يتحقق رسمياً بعد، وما زالت تركيا تهدّد، بين فينةٍ وأخرى، بعرقلة انضمامهما. يصف بعض المحللين ما أسموها “الوحدة الأوروبية” ضد روسيا وإعادة التحالف الأميركي الأوروبي الى أوجه بأنه خسارة روسية كبيرة، ومكسب غربي. إلا أن هناك محاذير كبيرة حول هذا الاعتقاد، لأسبابٍ منها أن مثل هذه المواقف في السياسة الخارجية عادة ما تكون مؤقتة، أو تلتقي حول ملفّ واحد يصعب تمريره على ملفات أخرى، ما يجعل الاعتقاد بوحدة أوروبية مجرّد وهم، فالسياسة الخارجية الأوروبية متباينة كثيراً في ملفاتٍ دوليةٍ كثيرة. وحتى في ما يخصّ روسيا، موقف حكومة اليمين في هنغاريا آخذٌ بالابتعاد عن توجهات بروكسل، وربما تلحق إيطاليا قريباً بعد سقوط حكومة الوحدة الوطنية بقيادة رجل الوحدة مع أوروبا ماريو دراغي، وحل البرلمان، والذهاب إلى انتخابات مبكرة في شهر سبتمبر/ أيلول، والتي تظهر استطلاعات الرأي أن ائتلاف اليمين، بقيادة حزب “إخوة إيطاليا” بقيادة جورجيا ميلوني، سيحقق فوزاً سهلاً، فاليمين المتطرّف في هنغاريا وإيطاليا آخذ بالاقتراب من بوتين، رغم أن الأخير يعزو أحد أسباب غزوه أوكرانيا إلى القضاء على اليمين “النازي” هناك.
إحدى النتائج الفعلية للحرب الدائرة في أوكرانيا وحقيقة سيطرة موسكو على دونباس ومناطق إضافية أخرى أن القرم أصبحت عملياً من الماضي
في المقابل، ما حققته روسيا من مكاسب من الحرب، رغم الخسائر الاقتصادية والبشرية، تعدّ استراتيجية ذات وزن مؤثر في حسابات ربح الحروب وخسارتها، وأهم هذه المكاسب الأرض، فالإقليم المتنازع عليه “دونباس” الذي كان السبب في نشوب الحرب أصبح تحت السيطرة الروسية بالكامل. لا بل طاولت شهية التمدّد الروسي مناطق إضافية أخرى، مثل مقاطعة خيرسون وغيرها. وعلى الدرجة نفسها من الأهمية، يمكن السؤال: من يذكر القرم اليوم، وإمكانية انسحاب روسيا منها؟ إحدى النتائج الفعلية للحرب الدائرة وحقيقة سيطرة موسكو على دونباس ومناطق إضافية أخرى أن القرم أصبحت عملياً من الماضي، فالمطالبات الآن ترتكز على الأراضي المحتلة حديثاً. للأسف، هكذا تعمل الصراعات الدولية في ما يخصّ الأرض، إذ يدور الحديث عن آخر قطعة جرى احتلالها ضمن أي تسوية مستقبلية، تماماً كما فعلت إسرائيل عندما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة في 1967، فتوقف الحديث عن أراضي 1948، وبعد أن بنت مستوطنات عملاقة في الأراضي المحتلة في 1967، مثل أرئيل ومعاليه أدوميم، تحوّل الحديث عن انسحابٍ مع “تبادل أراضٍ” بدل هذه المستوطنات. مقابل هذه الإنجازات الهائلة بالسيطرة على الأرض، هل يمكن الالتفات إلى الخسائر الاقتصادية أو دخول موسكو نظام الـ”سويفت كود” معايير لقياس من يكسب الحرب ويخسرها في أوكرانيا.
المؤشّر الاستراتيجي الثاني الذي حققته روسيا منذ غزوها الاختلال الكبير في العامل الديموغرافي في شرق أوكرانيا لصالح روسيا، والذي نجمت عن حركة لجوء أوكرانية واسعة زادت عن ستة ملايين، ما يعني تطهيراً عرقياً في شرق أوكرانيا حتى لو لم يكن مقصوداً. الغالبية العظمى اليوم في الشرق الأوكراني أصبحت لصالح الإثنية الناطقة بالروسية، فكيف ستعاود أوكرانيا السيطرة على إقليم دونباس الذي فقد الكثير من أوكرانييه! اللاجئون لا يعودون بمعظمهم، هكذا بينت كثير من دراسات الصراع في العالم حتى ولو أعطوا حق العودة بالكامل، تماماً كما حدث في البوسنة التي أعطى فيها اتفاق دايتون حق العودة للجميع، لكن نسبة العودة للبوسنيين لم تتجاوز 20% في مناطق كثيرة. كان للتشجيع الأوروبي الأميركي دور رئيسي في حالة النزوح الكبيرة من شرق أوكرانيا باتجاه العواصم الأوروبية، معتقدين أنها مسألة وقت، وأن “الناتو” سيعيدهم إلى بيوتهم بعد هزيمة موسكو هناك، وهذا يذكّرنا باللاجئين الفلسطينيين عام 1948، الذين وعدتهم بعض القيادات العربية أنها مسألة وقت عندما غادروا بيوتهم ذلك العام.
يمكن تسمية النموذج الذي يحكم سير المعارك في أوكرانيا على مدار الأشهر الخمسة الماضية بـ”الزحف الحلزوني المكلف”، أي أنّ الغرب يرفع كلفة الحرب على روسيا، لكنّ الأخيرة تتقدّم على الأرض ببطء أو بسرعة حلزونية. وهذا الزحف إذا ما استمر على هذا المنوال، ولا مؤشّرات على تغييره، يقترح أن روسيا قد تتمكّن فعلاً من السيطرة على المدخل المائي المتبقي لأوكرانيا على البحر الأسود بعد أشهر ولو بتكلفة عالية، وبذلك يجرى تحويل أوكرانيا الى منطقة مغلقة Landlocked من دون منافذ مائية، بعدما خسرت ميناء ماريوبيل، وبذلك تكون موسكو قد حققت أكبر مكسب استراتيجي لها، في حين أن بريطانيا والولايات المتحدة لا زالتا تناقشان مدى الصواريخ التي يمكن لهم منحها لأوكرانيا.
أخيراً، يمكن القول بأن الدعم الأميركي البريطاني لأوكرانيا ربما وصل إلى آخر حدوده، وذلك بما تسمح به قواعد الصراع بين اللاعبين الكبار، وهذا يفسّر تصريحات بايدن عن العودة إلى الشرق الأوسط لمنع التمدد الروسي الصيني، ما يشير إلى نفاد خياراته في هزيمة روسيا في أوكرانيا بطريقة الحرب بالوكالة، وأصبح يبحث عن مناطق جديدة يمدّد بها حروب الوكالة، والمرشح الأول هنا هو للأسف العالم العربي.