أبرزرأي

من أي باب سيعود النفوذ الروسي إلى سورية؟

كتب حسان الأسود, في العربي الجديد:

في تطوّر لافت، صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأربعاء (8/10/2025)، أنّ القضية الكردية قد تنفجر في سائر دول المنطقة، إذا ما أدّت “المناورات” المتعلّقة بالكُرد السوريين نحو “الحكم الذاتي والانفصال” إلى خطوات عملية. وأكّد الوزير في التصريحات نفسها أنّ بلاده ستدعم الشركاء السوريين بكل الطرائق الممكنة، وأنّها مستعدّة للتعاون مع الدول الأخرى التي لها مصالح في سورية، وأكّد أهمية مشاركة الرئيس أحمد الشرع في القمّة الروسية العربية التي كانت مقرّرة في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قبل إرجائها. وتبدو الرسائل إلى الأطراف المعنية واضحة في تصريحات لافروف، خصوصاً أنها جاءت خلال فترة نشاط واضح بين الحكومة السورية وقيادات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي كان أرفعها مستوى لقاء الرئيس الشرع مع مظلوم عبدي. كذلك، تبدو أهمية التصريحات ضمن سياق نشاط المبعوث الأميركي، السفير توم برّاك، في هذا الملفّ تحديداً. يضاف إلى ذلك كلّه مسألة وقف الحرب في غزّة، وما سيعقبها من تطوّرات في المنطقة برمّتها.

القضية الكردية مرشّحة للانفجار إقليمياً إذا ما تحوّلت المناورات السياسية إلى خطواتٍ عملية نحو الحكم الذاتي والانفصال

ستطرب بعض الآذان التركية لتصريحات الروس بهذا الخصوص، فالمعضلة الكردية التي تحاول تركيا حلّها داخل حدودها، مشكلة إقليمية، لا بدّ من ربط جميع أطرافها بخيطٍ واحد حتّى يكون الحلّ ناجعاً. على الأقلّ، يجب أن تكون الساحة السورية جزءاً رئيساً من الخريطة باعتبارها إحدى أهمّ الساحات الرخوة والمنفتحة على احتمالاتٍ كثيرة. فمن المُلاحظ أنّ في تركيا وجهتَي نظرٍ مختلفتَين للعلاقة مع الأكراد، في تركيا وخارجها، وأنّ التيّار القومي، وهو الدولة العميقة فعلياً، يرغب بإنجاز اتفاق تاريخي يضمن لتركيا علاقة مميّزة مع أكرادها ومع أكراد سورية على غرار علاقتها مع أكراد إقليم كردستان العراق، من خلال إعطائهم في سورية صلاحيات واسعة قد تصل إلى حدود الحكم الذاتي المرتبط مصلحياً بتركيا، ما يضمن لها في النتيجة نفوذاً واسعاً هناك. بينما يرى جناح الرئيس أردوغان أنّ هذا الأمر يشكّل خطورة كبيرة على المدى الاستراتيجي البعيد، لأنّه سيؤسّس نواة الدولة الكردية المستقبلية، وهذا ما يخشاه كثيراً، خصوصاً مع تكرار الأميركيين الحديث عن انتهاء مفاعيل اتفاقيات سايكس بيكو، ووجوب إعادة النظر في خرائط المنطقة. وكما تركيا، فالعراق ليس موحّداً تجاه الموضوع الكردي في سورية، فهناك موقف العاصمة بغداد، ويقابله موقف حكومة إقليم كردستان، ثمّ موقف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الأقرب إلى إيران منه إلى تركيا.
دخول الروس على الخطّ، رغم أنّهم لم يخرجوا منه نهائياً، إنّما يدلّ على فاعلية قديمة متجدّدة لا يمكن التغاضي عنها، خصوصاً إذا ما أضيف إليها موضوع التوازن الذي كانت ترعاه مع الجانب الإسرائيلي، وتبدو القيادة السورية الجديدة بحاجة كبيرة إليه. فرغم التصريحات الأميركية الداعمة لسورية بقوّة، إلّا أنّ الانحياز للرؤية الإسرائيلية يدفع السوريين إلى التفكير مليّاً بموازنة من نوعٍ ما، تُعيد شيئاً من أوراق القوة في ساحات التفاوض. ومع دخول اتفاق وقف الحرب في غزّة حيّز التنفيذ، ستتجه الأنظار نحو سورية والمفاوضات التي كانت جاريةً لتوقيع اتفاقٍ أمني جديد يوضّح العلاقة بين الجانبَين. الخوف من تصعيد الحكومة اليمينية المتطرّفة في تل أبيب، وحاجتها الدائمة للاستثمار في الأزمات أو إشعالها، وغضِّ الأميركيين الطرفَ عنها… ستدفع القيادة السورية للتفكير في الروس معادلاً مقبولاً لإسرائيل، وصاحب مصلحة باستعادة نفوذه في المنطقة من البوابة السورية، التي لا تزال (بالمناسبة) مفتوحةً على إمكانات واسعة تخدم المصالح الروسية ذات التاريخ الطويل هنا.
الملفّات السورية الروسية المطروحة على الطاولة كثيرة ومعقّدة، بعضها، مثل ملفّ تسليم أزلام النظام البائد وفي مقدّمتهم بشّار الأسد، رمزي للطرفَين. يريد الجانب السوري تحقيق اختراق في هذا المجال لاعتبارات عديدة، أهمها تعزيز شرعية النظام الجديد دولياً، لأنّ من شأن هذه الخطوة، إن تمّتْ، أن تعطي دفعةً كبيرةً للاعتراف الدولي بنظام الحكم الجديد من خلال طيّ صفحة النظام القديم نهائياً. وستثمر داخلياً من خلال تحريك ملفّ العدالة الانتقالية المتعثّر، وغير المطمئن لكثير من السوريين والسوريات، وستهدّئ النفوس المكلومة ولو إلى حين، كما إنها ستفتّ في عضد الفلول وأنصار النظام السابق إقليمياً مثل حزب الله وإيران. لكنّ هذه الورقة ليست بهذه الخفّة حتى تتنازل عنها روسيا ببساطة أو مقابل أثمانٍ زهيدة. هناك كثير ممّا يمكن أن تطلبه من السوريين قبل أن تفكّر جدّياً في الأمر. في رأس الأولويات مواضيع الاتفاقات الاقتصادية الموقّعة أثناء الصراع، ثمّ مواضيع تسليح الجيش السوري وإعادة هيكلته وتدريبه، ومواضيع القوات العسكرية الروسية وقواعدها المنتشرة في البلاد. ليست هذه المسائل بالسهولة التي نتصوّرها، فوراء كل مسألة منها مصالح متداخلة مع دول الجوار وأمنها القومي، أو مع مصالحها الاستثمارية ونفوذها على العموم. فهل ستسمح أميركا للروس بإعادة التموضع وتقوية أوراقهم؟ وهل ستقبل أوروبا مثل هذا الأمر، وهي تدخل في تصعيد خطير مع روسيا يهدّد بإشعال حربٍ في القارة العجوز؟ وإن قبلت مضطرّة ذلك، هل ستبقي على دفء العلاقة مع حكّام سورية الجدد؟ ثمّ (والأهم) هل ستكفي صداقة بوتين – نتنياهو لتزيل الثلوج من طريق العودة الروسية إلى سورية؟ وأخيراً، هل تتعارض العودة الروسية مع المصالح العربية والخليجية خاصّة في سورية، وهي المرشّحة الأكثر ترجيحاً لحمل عبء إعادة الإعمار؟

من شأن تسليم موسكو رموز النظام البائد إلى دمشق أن يعزّز شرعية النظام الجديد دولياً، ويفتح صفحة العدالة الانتقالية

لا يزال المشهد ضبابياً في كثيرٍ من جوانبه، وقد تفتح زيارة الرئيس أحمد الشرع الأبواب مجدّداً على دورٍ روسي أكثر تأثيراً في المنطقة برمّتها، وليس في سورية فحسب. الانتقادات العاطفية التي توجّه للانفتاح على الروس محقّة، لكنّها غير ذات قيمة في موازين السياسة، إذ لا أعداء دائمين، ولا أصدقاء كذلك، في السياسة. المصالح هي الأساس، ولا يمكن القفز عنها إلّا لتحقيق مصالح أكبر منها. قد يكون للروس دورٌ مهمّ في تثبيت التفاهمات في الجنوب السوري كما حصل عام 2016، وقد يضمنون الاتفاقات التي ستعقد بين الحكومة و”قسد” أيضاً، فمن مصلحة الأتراك، في هذه النقطة بالذات، إشراك الروس لتقليل مفاعيل الدعم الأميركي أخيراً. وبكل الأحوال، روسيا لا تزال إحدى الدول العظمى التي تمتلك حقّ النقض (فيتو) في مجلس الأمن، وما لم يتغيّر النظام العالمي برمّته، فلن يكون بالمقدور الاستغناء عنها في كثير من القضايا. الأبواب التي سيدخل منها الروس مجدّداً سورية كثيرة، وأهمّها باب التوازن مع أميركا الذي تحتاجه سورية، كما تحتاجه روسيا ايضاً.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى