رأي

مندوب أممي جديد في ليبيا ومشهد سياسي جامد

كتب أبو القاسم علي الربو, في “العربي الجديد” :

“في وقت أعبر فيه عن امتناني للكلمات الطيبة والدعوات والرسائل المشجعة التي تلقيتها، فإنني ملتزمة بأداء واجباتي بأفضل ما في وسعي”… بهذه الكلمات المقتضبة، استهلت الغانية، هانا بتتيه، تصريحاتها عقب إعلان تعيينها مبعوثة للأمم المتحدة في ليبيا، خلفاً للسنغالي، عبد الله باتيلي الذي استقال في إبريل/ نيسان الماضي (2024)، والذي صرح بأن استقالته جاءت بعد تأكّده بأن الأمم المتحدة لا تستطيع تقديم المساعدة في دعم العملية السياسية في ليبيا، في ظل وجود مسؤولين يعطون الأولوية للمصالح الشخصية على حساب حاجات البلاد.

وبالرغم من شغور المنصب منذ فترة، ومطالبة أطراف عديدة بضرورة تسمية مبعوث جديد للأمين العام للأمم المتحدة، كالمجموعة الأفريقية في مجلس الأمن، وروسيا التي ما فتئت تعبر عن استيائها من التأخير في تعيين هذا المبعوث، معتبرة ذلك تهديداً لاستمرار دور البعثة الأممية في ليبيا، ناهيك عن أحزاب ليبية أرسلت خطابات إلى الأمين العام تطالبه بالمطالب نفسها، ولا سيما أن الأميركية، استيفاني خوري، قد تولّت، مؤقتاً، مهمة محدّدة، رئاسة البعثة بالإنابة، لم يعد الشارع الليبي، وبعد مرور كل هذه السنوات على توافد المندوبين على البلد، يحتاج إلى دليل على أن الأمم المتحدة غير عاجزة، أو غير جادة، على تقديم أي حلول جذرية تخرج بلادهم من نفقٍ طال مكوثها فيه، ومن ثم، لم تعد هذه الأخبار والتكليفات تعني له شيئاً، ليقينه التام أنها لن تغيّر في واقعه الذي يزداد سوءاً في كل مرحلة، وكأنه يتناسب طردياً مع عدد المبعوثين.

الأمم المتحدة غير عاجزة، أو غير جادة، على تقديم أي حلول جذرية تخرج ليبيا من نفقٍ طال مكوثها فيه

عيّنت هانا، التي كانت، منذ العام 2022، الممثلة الخاصة للأمين العام في القرن الأفريقي، كما شغلت منصب وزيرة خارجية غانا (2013 – 2017) في جلسة لمجلس الأمن، كادت أن تفشل في الاتفاق على مرشّح يتولّى هذه المهمّة، بعد أن اعترضت موسكو على ترشيحها، لتعود وتسحب اعتراضها فجأة، من دون ذكر أسباب الاعتراض أو الموافقة، الأمر الذي فسّره مراقبون كثيرون نوعاً من المساومة، وغالباً ما يحدُث هذا في ظل تفاهمات الدول الكبرى التي تتقاسم الأدوار فيما بينها بما يضمن تحقيق مصالحهم.

لم تكن هانا الأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، فقد سبقها عشرة مندوبين منذ العام 2011، اختلفت جنسياتهم، وتنوّعت خلفياتهم السياسية، وتباينت إمكاناتهم، وتعدّدت الدول الداعمة لهم لتولي هذا المنصب الحساس، إلا أن القاسم المشترك بينهم جميعا فشلهم في تحقيق أي تقدّم ينهي مسلسل المراحل الانتقالية، ويضع حدّاً للصراع السياسي الذي أصبح السمة الغالبة في ظل انقسام مؤسسات الدولة وغياب دور الحكومة المركزية على كامل التراب الليبي. وقد استمرّ الانقسام رغم توافد مندوبي الأمم المتحدة الذين استطاعوا، وبكفاءة، أن يحققوا إضافات معتبرة لسيرهم الذاتية، وتجارب عملية أضيفت إلى رصيدهم السياسي، وشهرة مكنتهم من الاستفادة الشخصية على حساب معاناة الشعب الليبي، على غرار ما حدث مع برناردينو ليون، الإسباني الجنسية الذي جاء في الترتيب الرابع على قائمة المبعوثين، وذكرت صحيفة الغارديان البريطانية أنه بمجرد تركه منصبه هذا تفاوض على قبول وظيفة براتب 35 ألف جنيه إسترليني مع الإمارات، نقلاً عن مندوبين تناوبوا على الملف الليبي، منهم من استقال لحالته الصحية، كما صرح، ومنهم لعدم تجاوب الأطراف الليبية وعدم رغبتهم في إنهاء حالة الجمود نتيجة استفادتهم الشخصية، ومنهم من واجه ضغوطاً خارجية، قيّدت حريته في اقتراح الحلول، والتي ترى دول كبرى أنها لا تحقق مصلحتها. ولعل النجاح النسبي الوحيد الذي تحقق خلال رحلة المندوبين التي استمرّت أكثر من 11 سنة انتهى بتشكيل المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، والذي أنجزته القائمة بأعمال البعثة بالإنابة، ستيفاني وليامز، من خلال قيادتها حواراً سياسياً في العام 2020، رغم ما شاب ذلك الحوار من شبهات فساد ورشاوى، أكدتها تقارير لخبراء من الأمم المتحدة قُدمت إلى مجلس الأمن، واكتفت ستيفاني، في حينه، بإعلان فتح تحقيق، غير أنه لم يحدث، وهو الأمر الذي استند إليه بعض البرلمانيين، في طلبهم أخيراً، من النائب العام والجهات القضائية والرقابية، بالإفصاح عن شبهات الفساد والرشاوى، والتي لم تقابل بأي كشف أو توضيح من الجهات المختصة (حول ما إذا كانت قد باشرت التحقيق فيها أو ما توصلت إليه) بحسب ما جاء في بيان عدة نواب.

لا يزال المجتمع الدولي يحرص على إدارة الأزمة في ليبيا، وليس إنهاءها، لتبقى مهمّته التي يُتقنها بامتياز الاستمرار في إرسال المندوبين

وفي السياق نفسه، يبدو أن هانا قد فضلت ما قامت به سابقتها، ستيفاني، وقرّرت الاحتكام إلى تعيين لجنة استشارية، أعلنت بعثة الأمم المتحدة أن مهمتها ستكون تقديم مقترحات (ملائمة فنية وقابلة للتطبيق سياسياً) لحل القضايا الخلافية العالقة، من أجل تمكين إجراء الانتخابات، وتستند اللجنة، بحسب ما صرّحت به البعثة في عملها على المرجعيات والقوانين الليبية القائمة، بما في ذلك الاتفاق السياسي الليبي وخريطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي وقوانين 6 + 6 الانتخابية، لجنة استشارية أكدت البعثة أنه تم اختيار أعضائها بناء على مجموعة معايير تشمل المهنية، والخبرة في القضايا القانونية والدستورية، والقدرة على تحقيق التوافق، مضيفة أنه أخذ في الاعتبار العوامل الثقافية والتوازن الجغرافي وتمثيل المروءة، معايير نشرتها البعثة على صفحتها الرسمية في “فيسبوك”، والتي يبدو أنها محاولة لتفادي الانتقادات التي وُجّهت إلى ستيفاني في اختيارها لجنة الـ 75، حيث كانت ستيفاني، وبعض الراسخين في العلم، فقط على دراية بالأسس والمعايير التي جرى بها اختيار أعضاء اللجنة. هذا ويأتي تعيين تيتيه في وقت تشهد فيه الساحة الليبية تطوّرات متسارعة، حيث تتزايد التقارير حول تعزيز الوجود العسكري الأجنبي في شرق البلاد وغربها وسط تنافس جيوسياسي في المنطقة، حيث تسعى القوى الدولية إلى تعزيز نفوذها في ليبيا والساحل الأفريقي، الأمر الذي جعل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يطالب الدول المتداخلة في الشأن الليبي بالكفّ عن التدخل فيه، واعتبر أن “من الأفضل للجميع أن تكون هناك ليبيا تنعم بالسلام، لأن الجميع سوف يستفيد من ذلك”.

ومن جهة أخرى، تزامن تكليف المبعوثة الجديدة مع التقرير الأممي الذي صدر أخيراً، والذي أزال اللثام عن الوضع المأساوي آلت إليه البلاد، حيث كشف التقرير أن الجماعات المسلحة تسيطر على مؤسّسات الدولة، وأن هذه الجماعات وصلت إلى مستوى غير مسبوق من النفوذ، خصوصاً في المنطقة الغربية، وأصبحت تعرقل قدرة المؤسّسات على أداء مهامها باستقلالية، كما أفاد التقرير بأن “حصر الأسلحة لا يزال غير فعّال، وأن قوات خليفة حفتر عزّزت قدراتها العسكرية بسبب تدفق المقاتلين الأجانب والشركات العسكرية الخاصة”، الأمر الذي يزيد من صعوبة مهمّة المبعوثة، ويضع عراقيل وصعوبات كثيرة أمام تحقيق خططها، ويجعلها تواجه تحدّياً حقيقياً من الصعب تجاوزه، ولا سيما أن المجتمع الدولي لا يزال يحرص على إدارة الأزمة، وليس إنهاءها، لتبقى مهمّته التي يُتقنها بامتياز الاستمرار في إرسال المندوبين إلى بلدٍ يحتاج من الأمم المتحدة إلى أكثر من ذلك.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى