ملاحظات أولية على القمّة العربية

كتب حسن نافعة في صحيفة العربي الجديد.
انعقدت في القاهرة، الثلاثاء الماضي، قمّة عربية استثنائية لمناقشة (وإقرار) “خطّة مصرية لإعادة إعمار غزّة من دون تهجير سكّانها”. ورغم محدودية النتائج التي أسفرت عنها، إلا أن القمّة تضع النظام العربي الرسمي برمّته أمام اختبار صعب لم يعد أمامه من بديل آخر سوى اجتيازه بنجاح، وإلا حكم على نفسه بالموت وفقد مبرّر وجوده. ذلك هو الاستنتاج الرئيس الذي يمكن استخلاصه من فحصٍ مدقّق لمجمل الملابسات التي أحاطت بانعقاد قمة القاهرة الاستثنائية: ومن قراءة متعمّقة لمضمون بيانه الختامي. في ما يلي ملاحظات أولية على هذه القمّة:
تتعلق الملاحظة الأولى بالهدف الحقيقي من مؤتمر عربي يُعقَد تحت شعار “قمّة فلسطين”. فلهذا الاختيار دلالة خاصّة تفيد بأن النظام الرسمي العربي يرى أن القضية الفلسطينية ما زالت المحرّك الرئيس لمجمل التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط برمّتها، ولن تنعم هذه المنطقة بالهدوء والاستقرار إلا إذا جرى التوصّل إلى تسوية شاملة وعادلة لهذه القضية، ويعلن بالتالي رفضه القاطع للمحاولات كافّة، التي تهدف إلى تصفية هذه القضية، سواء من خلال حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل منذ أكثر من 15 شهراً على قطاع غزّة، أو من خلال خطّة التهجير التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أخيراً. صحيح أن الموضوع الرئيس المدرج في جدول أعمال هذه القمّة انحصر في مناقشة (وإقرار) خطّة إعمار مصرية، هدفها الرئيس إثبات أنه يمكن من الناحية التقنية إعادة إعمار قطاع غزّة المدمّر من دون حاجة إلى إخلائه من سكّانه وإعادة توطينهم في مناطق أخرى، غير أن إطلاق اسم فلسطين على هذه القمّة يوحي بأن العالم العربي يودّ إرسال رسالة إلى كلّ من يهمّه الأمر، مفادها أن إعمار غزّة ليس هدفاً في حدّ ذاته، وإنما ينبغي أن يكون وسيلةً تضمن، في الوقت نفسه، كبح جماح كل العناصر التي قد تتسبّب في إعادة تدميرها، وهو الهدف الأسمى الذي يستحيل تحقيقه إلا بالتوصّل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية.
تتعلق الملاحظة الثانية بالملابسات التي أحاطت انعقاد هذه القمّة. فمنذ إقدام حركة حماس على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، لم تُعقَد أيُّ قمّةٍ عربيةٍ استثنائيةٍ، على الرغم من أن إسرائيل ردّت على هذه العملية بحرب شاملة على قطاع غزّة، أخذت شكل الإبادة الجماعية، وقامت في الوقت نفسه بتصعيد خطير لعملياتها العسكرية في الضفة الغربية، ما أدّى إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا، وتدميرٍ كاملٍ لقطاع غزّة، وإلى اقتحامات متكرّرة لعديد من المدن والمخيّمات الفلسطينية في الضفة الغربية. صحيح أن قمّةً استثنائيةً عُقدت في الرياض بعد حوالي شهرين من شنّ الحرب، لكنّها كانت عربيةً إسلاميةً مشتركةً، ولم تكن عربيةً خالصةً، وصحيح أيضاً أن قمّةً عربيةً عُقدت في المنامة، في مايو/ أيار الماضي (2024)، لكنّها كانت اعتياديةً عُقدت في موعدها السنوي تقريباً، أي بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاع الحرب، التي كانت مشتعلة. والسبب في هذا التراخي العربي، الذي عكسه عدم الإحساس بالحاجة إلى عقد قمّة استثنائية (من وجهة نظر كاتب هذه السطور على الأقلّ)، رغبة معظم الأنظمة الحاكمة في إفساح المجال لإسرائيل للقضاء على حركة حماس. صحيح أن هذه الأنظمة عبّرت عن القلق إزاء الأضرار التي لحقت بالمدنيين الفلسطينيين، وعن إدانتها الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، لكنّها لم تبدأ في التحرّك بالجدّية الواجبة إلا عقب مؤتمر صحافي عقده ترامب في البيت الأبيض، في حضور بنيامين نتنياهو، الذي كان يزور الولايات المتحدة في ذلك الوقت، عبّر فيه عن رغبته في “الاستيلاء” على قطاع غزّة وتحويله “ريفييرا” شرق أوسطية بعد إخلائه من سكّانه، وطالب مصر والأردن بتخصيص مناطقَ في بلديهما لإعادة توطين الفلسطينيين المُبعَدين. ولأن هذه التصريحات الصادمة كان لها وقع الزلزال على قادة المنطقة، خصوصاً بعدما لحقت بها تصريحات أخرى، على لسان نتنياهو هذه المرّة، تشير بطريقة ساخرة إلى أن السعودية تستطيع أن تساعد في إقامة دولة فلسطينية في أراضيها الشاسعة. هنا أحسّت هذه الأنظمة بأن أمنها مهدّد بالفعل، وبدأت تتذكّر أن المشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين وحدها، وإنما يشكّل تهديداً فعلياً لأمن جميع الدول المجاورة، ما دفع مصر للمسارعة بالإعلان عن استعدادها لتقديم “خطّة للتعمير بلا تهجير”، وبالدعوة إلى عقد قمّة عربية استثنائية في القاهرة، ودفع السعودية إلى المسارعة بالدعوة إلى “قمّة تشاورية مصغّرة” تُعقَد في الرياض قبل انعقاد قمّة القاهرة.
رفضت إسرائيل ما تضمّنه بيان قمّة القاهرة الختامي من مواقف ومقترحات، خصوصاً ما تعلّق منها بخطة إعمار غزّة
تتعلّق الملاحظة الثالثة بمستوى المشاركة في قمّة القاهرة. فعلى الرغم من حرص جميع الدول العربية على المشاركة فيها، إلا أن مستوى التمثيل كان أقلَّ من المتوقّع، إذ كان غياب لافت لعدد من قادة العرب المؤثّرين، خصوصاً ولي عهد السعودية ورئيس الإمارات والرئيس الجزائري. وبينما فُسّر غياب الأخير بعدم رضاه عن المشاورات التمهيدية التي اقتصرت على عدد محدود من الدول، استبعدت منها الجزائر، رغم أنها الممثّل الحالي الوحيد للمجموعة العربية في مجلس الأمن، لم تصدر عن السعودية أو الإمارات تصريحات تفسّر غياب قادتهما عن هذه القمة المهمّة، ما أدّى إلى ظهور تفسيرات متناقضة ينحو معظمها إلى ربط هذا الغياب بنفقات إعادة إعمار القطاع، التي تُقدَّر بأكثر من خمسين مليار دولار.
تتعلق الملاحظة الرابعة بفحوى البيان الختامي للقمة، والذي تضمّن 23 نقطة تشير إلى ما جرى التوافق عليه من رؤى ومواقف وسياسات. ولأن الدول المشاركة في القمّة كانت على وعي تام بأن دورها لا ينبغي أن ينحصر في مناقشة الجوانب الفنّية لخطّة الإعمار المصرية، وأن يركّز بدلاً من ذلك على إبراز السياق السياسي العام، الذي يسمح بتنفيذ هذه الخطّة، خصوصاً ما يتعلّق منه بالجهة التي ستوكل إليها إدارة قطاع غزّة بعد توقّف القتال، وبآفاق تسوية القضية الفلسطينية المتمثّلة في حلّ الدولتَين، وهو ما نجح فيه البيان الختامي إلى حدّ كبير، فقد رحّب بقرار السلطة الفلسطينية تشكيل “لجنة لإدارة غزّة” تعمل “تحت مظلّة الحكومة الفلسطينية”، وتضمّ فنّيين لا ينتمون لأيّ أحزاب أو فصائل سياسية، وأكّد أن “ملفّ الأمن مسؤولية فلسطينية”، وأشاد بالجهود التي تبذلها مصر والأردن لتدريب القوات التي سيعهد إليها بهذه المسؤولية. ولأن الرئيس محمود عبّاس أفصح في كلمته الافتتاحية عن نيّته تعيين نائب لرئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، وإصدار قرار بالعفو عن المفصولين من حركة فتح، واتّخاذ الإجراءات كافّة اللازمة لتنظيم انتخابات عامّة في الأراضي الفلسطينية خلال العام المقبل… ذلك كلّه ولّد انطباعاً بوجود خطّة جاهزة لإصلاح مؤسّسات السلطة الفلسطينية وتطويرها، وتوافر رؤية واضحة للتعامل مع مرحلة ما بعد الوقف الدائم لإطلاق النار. ولا جدال في أن “حماس” تتحفّظ على عديد من هذه المواقف والإجراءات، غير أنه كان لديها ما يكفي من الحكمة والفطنة لدفعها إلى عدم الاعتراض علناً على البيان الختامي للقمّة، وولّد انطباعاً جيّداً بأنها تهتم بمستقبل الشعب الفلسطيني، الذي يحقّ له تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، بأكثر ممّا تهتم بالانفراد بحكم قطاع غزّة.
لم يحدّد البيان الختامي لقمّة القاهرة ما الذي ينبغي القيام به في حال رفْض خطّتها لإعمار قطاع غزّة
أمّا موقف المجتمع الدولي من البيان الختامي، وهي الملاحظة الخامسة، فتجدر الإشارة هنا إلى أن كلّاً من أمين عام الأمم المتحدة، ورئيس المجلس الأوروبي، ورئيس الاتحاد الأفريقي، وأمين عام منظّمة التعاون الإسلامي، وأمين عام مجلس التعاون الخليجي، شاركوا في أعمال هذه القمّة، وألقوا كلمات في جلستها الافتتاحية، وصدرت منهم جميعاً تصريحاتٌ مرحّبةٌ بالبيان الختامي، وداعمةٌ للخطّة التي أقرّتها قمّة القاهرة لإعمار قطاع غزّة في مرحلة ما بعد الوقف الدائم لإطلاق النار. غير أن إسرائيل والولايات المتحدة تبنَّتا مواقفَ مختلفةً تماماً، فما إن انتهت قمّة القاهرة الاستثنائية حتى صدرت عن إسرائيل تصريحات تؤكّد رفضها كلّ ما تضمّنه بيانها الختامي من مواقف ومقترحات، خصوصاً ما تعلّق منها بخطة إعمار غزّة، التي اعتبرتها إسرائيل غير ملائمة للوضع الحالي. أمّا الولايات المتحدة، فقد صدرت منها تصريحات تؤكّد أن ترامب ما زال متمسّكاً بمقترحاته السابقة، ويصرّ على “إعمار غزّة خاليةً من حماس”. ولأن إسرائيل والولايات المتحدة هما الدولتان الأكثر تأثيراً في مسار الأحداث في المنطقة في المرحلة الحالية، يمكن القول إن موقفيهما سوف تترتّب منهما حتماً إعادة الكرة إلى الملعب العربي، وبات على الدول العربية أن تحدّد طبيعة الخطوة التي تنوي القيام بها في المرحلة المقبلة. وهنا تتجلّى بوضوح أكثر عورات قمّة القاهرة أهمية، خصوصاً أن بيانها الختامي لم يحدّد للدول العربية ما ينبغي لها القيام به في حال رفض خطّتها لإعمار قطاع غزّة، وانسداد أفق التسوية السياسية للقضية الفلسطينية من جديد.
تملك الدول العربية أوراقاً كثيرةً للضغط، لكنّها لم تستخدمها، ولم تفعّلها بعد، ويبدو أنها لا تملك ما يكفي من الإرادة للقيام بهذه الخطوة، فماذا تنتظر بعدما قرّر نتنياهو قطع سبل الحياة كلّها عن قطاع غزّة؟ هل تنتظر قراره باستئناف القتال وفتح طوفان الجحيم، كما يأمل بن غفير؟