رأي

مفاوضو إيران بمسقط يفاوضونها في فيينا

كتب طوني فرنسيس في “اندبندنت عر بية” : “

يعرف الأميركيون تماماً أسلوب التفاوض الإيراني. فقد خبروه منذ احتلال سفارتهم في طهران، وتعمقوا فيه إبان خطف الرهائن في بيروت، وتخصصوا بمواده منذ انطلاق حوارهم مع إيران من أجل التوصل إلى اتفاق في شأن الملف النووي. والأميركيون، لا شك في أنهم خرجوا باستنتاجات كثيرة من تجاربهم، وباتوا يفهمون بدقة العلاقة بين الرأس المدبر في بلاد فارس والتنظيمات التابعة المنتشرة في محيطها. ومثلما خبروا أسلوب الرأس، أمكنهم معرفة حدود تحرك الأتباع، بين حدي إعطاء الأولوية لمصالح دولة الولي الفقيه، والبحث عن مكاسب محلية. وفي الحالين، يسود الأسلوب نفسه في مقاربة التحديات: خطط بعيدة المدى ومساومات وترهيب وإرهاب ينتهي عند تحقيق أهداف ما يسمى بـ “الأممية الشيعية” بقيادة الإمام الخامنئي.

ضم الطاقم الأميركي الذي تولى مفاوضة الإيرانيين قبل عشر سنوات الشخصيات التي تقوم الآن بمفاوضتهم في فيينا. وليام بيرنز الذي يقود الاستخبارات المركزية الأميركية اليوم كان شريكهم في لقاءات مسقط السرية، وإلى جانبه جيك سوليڤان مستشار الأمن القومي حالياً ومساعد نائب الرئيس في حينه جو بايدن لشؤون الأمن. كان جون كيري رئيس اللجنة الخارجية في مجلس الشيوخ الذي سيصبح وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس باراك أوباما في فبراير (شباط) 2013، قد بدأ اتصالاته باكراً مع الإيرانيين وقبل أن يتولى منصب الوزير. أما ويندي شيرمان، “الثعلب الفضي” بحسب تسمية ممثلي خامنئي، فإنها كانت بين أوائل الدبلوماسيين الأميركيين الذين انطلقوا في المفاوضات النووية، وهي اليوم تتابعها من موقع أرفع، بصفتها المكلفة مفاوضة الروس في شأن أوكرانيا وأمن أوروبا والعالم.

كانت اتصالات عُمان السرية بدأت منذ 2010 أو قبل ذلك، وتسارعت في العام التالي، وبعد عامين، في 2013، وإثر لقاءات مجموعة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا وإيران في جنيف، تم الإعلان عن اتفاق سيستغرق التوقيع عليه عامين إضافيين ورسالة من أوباما إلى خامنئي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 يُحدثه فيها عن “تصدٍّ مشترك” لتنظيم “داعش” في سوريا والعراق !

خلال التفاوض، الذي استغرق نحو خمس سنوات، واصلت إيران عمليات تخصيب اليورانيوم ورفضت البحث في مشروعها الصاروخي وزادت وتيرة تدخلاتها في المحيط المجاور. وعشية الإعلان النهائي عن “خطة العمل المشتركة” نظمت الانقلاب الحوثي في اليمن، ودفعت بقواتها وميليشياتها إلى سوريا دعماً للنظام، ولعبت أدواراً تثير التساؤلات في الصعود المريب لـ”داعش” في الموصل، قبل أن تقدم نفسها راعياً للأمن العراقي.

وعلى وقع التفاوض نفسه، قادت في لبنان تعطيلاً للمؤسسات (2014- 2016)، فعم الفراغ موقع رئاسة الجمهورية وتعطلت الحكومة ولم يُفرج عنهما إلا بشروط تستجيب لمصالح إيران. وفي تلك الأيام بالذات، خرج المسؤولون الإيرانيون بنظرياتهم عن احتلال أربع عواصم عربية وعن “نصر في معركة الرئاسة اللبنانية”، ثم الفوز بأغلبية نيابية في بلاد الأرز.

الواقعية “الهجومية” الإيرانية والمعضلة الأمنية في الشرق الأوسط
أسلوب التفاوض الإيراني قام دائماً على ثنائية الخطاب المتشدد والدبلوماسية “الظريفة” من جهة، واستعمال الأدوات التي صنعها “الحرس الثوري” للضغط في الخارج من جهة ثانية. وبهذه الطريقة كان “حائك السجاد” الإيراني يمضي بطيئاً إلى أهدافٍ لم تُزَحْزِحه عنها العقوبات الأميركية ولا “الحرب بين الحربين” الإسرائيلية، ولا الاعتراض العربي على خرق نسيج المجتمعات وتهديد الدولة الوطنية.

أغنت تجربة ما قبل اتفاق 2015، ثم خروج الرئيس دونالد ترمب منه، وعودة بايدن إلى التفاوض في شأنه، المفاوضين الأميركيين والدوليين بخبرات إضافية. وفيما تراجعت النظريات عن شن حرب مباشرة، تكرست فكرة دمج الضغوط الاقتصادية بالاستعداد العسكري لتحقيق تسويات مقبولة. وواجه الإيرانيون ذلك باستنفاد قدراتهم إلى النهاية. وهذا كان وقت الإفادة من استثماراتهم في دول المحيط العربي.

لم تكن التطورات الخطيرة في تلك الدول معزولة عن سير المفاوضات المُستعادة في فيينا. من الهجوم الحوثي في مأرب، إلى رفض نتائج الانتخابات في العراق، إلى افتعال التعطيل في لبنان في مواجهة “مؤامرات السفارة الأميركية”. كان تنشيط الأذرع في تلك البلدان ورقة ضغط إضافية في يد المفاوض الإيراني يصعب تحييدها من دون بناء موازين قوى محلية تعطل الطموحات الزائدة لتلك الأذرع وتجبر راعيها على إعطاء توجيهات أُخرى. وأتاح انكشاف لعبة أنصار إيران إلى حد العُري الوطني ضبطهم في زاوية مُحاصرة. تلقوا صفعةً في اليمن، ونهض العراقيون إلى توازن وطني داخلي جديد. وفي لبنان، انتهت اللعبة إلى جعل ممثلي طهران وحيدين على مسرحهم الخطابي، فانتظروا إشارة مفاجئة من الولي الفقيه للانحناء أمام جدار الرفض الذي يزداد ارتفاعاً في وجه سياساتهم. وتلك الإشارة كانت كافية لجعل الحكومة تعود إلى العمل، وللغاز المصري أن يستعد لتزويد لبنان بالطاقة!

أدخلت السياسات الخمينية – الخامنئية المنطقة والعالم في توترات وضعتهما على حافة الهاوية، وفتحت الباب أمام تجارب جديدة في العمل الدبلوماسي المترافق مع الضغوط وشتى أنواع الحسابات. وإذا كان صحيحاً أن أفواجاً من الأميركيين خاضوا تلك التجارب ولا يزالون، فإن أقراناً عرباً لهم واكبوا المراحل جميعها منذ الثمانينيات، وهم اليوم الأقدر على استخلاص الدروس وتحقيق مصالح بلدانهم، انطلاقاً من مبدأ رفض التدخلات الخارجية وبالاستناد إلى بناء موازين قوى داخلية تدعم تحقيق هذا المبدأ.”

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى