معضلة تركيا كقوة إقليمية متوسطة

الكلف المغفلة للسياسة الخارجية القائمة على النفعية
كتب مصطفى كوتلاي, في “اندبندنت عربية” :
على رغم نجاح تركيا النسبي في توسيع نفوذها الدولي عبر دبلوماسية قائمة على الصفقات، فإن هذا النهج يهدد بتقويض شراكاتها التقليدية واستنزاف مواردها وتهميش أولوياتها الاقتصادية، مما يفرض عليها تحقيق توازن دقيق بين الاستقلال الاستراتيجي والواقعية السياسية والاقتصادية.
في وقت يتزايد الغموض حول مستقبل النظام الدولي، يبدو أن القوى المتوسطة تعيش لحظة فارقة. فإلى جانب دول مثل البرازيل وإندونيسيا والسعودية، تسعى تركيا إلى الاستفادة من مشهد جيوسياسي أقل تأثراً بنظام التحالف الأميركي في فترة ما بعد الحرب والدبلوماسية القائمة على القواعد، وأكثر ارتباطاً بتعدد مراكز القوة والعلاقات التي تقوم على أساس سياسة الصفقات والنفعية. ومنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 خصوصاً، سعت تركيا إلى بناء علاقات أقوى مع أطراف آخرين غير حلفائها الغربيين التقليديين، بمن في ذلك مع روسيا والصين. كما سعت أيضاً إلى توسيع نطاق نفوذها الدولي، ولا سيما خارج الغرب. وتحتل تركيا في الوقت الحالي المرتبة الثالثة عالمياً من ناحية عدد البعثات الدبلوماسية في الخارج، ولا تسبقها أية دولة على هذا الصعيد سوى الصين والولايات المتحدة فقط. كما أن تركيا قامت بدور صارم بصورة متزايدة في الصراعات الدائرة في جنوب القوقاز ومنطقة البحر الأسود والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتجسد سياسات تركيا الأخيرة في سوريا الطريقة التي يمكن بها لقوة متوسطة أن تمارس نفوذها في منطقتها، وتتفوق في بعض الأحيان على لاعبين يبدون أقوى منها. وعلى امتداد الحرب الأهلية السورية التي بدأت عام 2011، كانت الحكومة التركية تعارض الرئيس السوري بشار الأسد علناً، وتقدم دعماً مادياً للجماعات التي تقاتل ضد نظامه. وفعلت ذلك حتى عندما بدا أن الأسد كان يُحكم قبضته على السلطة، بدعم من إيران وروسيا، وتسبب الصراع نفسه في فرار ملايين اللاجئين السوريين إلى تركيا، مما خلق أخطاراً أمنية على طول الحدود الجنوبية الطويلة لتركيا مع سوريا. ومع ذلك، وبعد 13 عاماً، في ديسمبر (كانون الأول) 2024، انهار نظام الأسد. وعلى عكس كل التوقعات، أتت سياسة تركيا أُكلها، وإن تأخر ذلك. فسقط خصم أنقرة، ووفر انتصار جماعات المعارضة المدعومة من تركيا لأنقرة خطاً مباشراً إلى دمشق. ولا تزال الجغرافيا السياسية الإقليمية هشة، وسيكون بناء الدولة في سوريا عملية طويلة ودقيقة، بيد أن تركيا رسخت مكانتها كواحدة من القوى الخارجية الرئيسة ذات النفوذ اللازم لرسم معالم مستقبل البلاد.
ويبدو أن سياسة تركيا تجاه سوريا تؤتي ثمارها، في الأقل حالياً. ويتعين على القوى المتوسطة مثل تركيا السعي وراء مصالحها الخاصة والتحوط في رهاناتها للبقاء في عالم تُعدّ فيه الاضطرابات هي القاعدة، ولا يمكن الاعتماد على القوى العظمى، وتغلب عليه النزعة النفعية. وقبل عقدين من الزمن، كان نجاح السياسة الخارجية لهذه الدول يتوقف على تحولها إلى عضو صالح في النظام الدولي الليبرالي. أما اليوم، فأصبح “الاستقلال الاستراتيجي” هو عنوان اللعبة. ومع ذلك، إذا لم تُقدّر تركيا والدول ذات المواقف المماثلة المقايضات التي يمكن أن يؤدي إليها اتباع هذا النهج، فإنها ستخاطر بإرهاق شراكاتها واستنزاف مواردها الدبلوماسية والتقليل من أهمية أولوياتها الاقتصادية. فإن الفكرة القائلة إن السياسات القائمة على النفعية مفيدة بطبيعتها للقوى المتوسطة هي فكرة واهمة.
بعيداً من الغرب… قريباً من منافسيه
يعتقد صانعو السياسات الأتراك أن التوجه نحو التعددية القطبية من شأنه أن يولد عالماً جديداً، وهذا العالم ينبغي لتركيا أن تكون لاعباً فاعلاً فيه. وركزت دبلوماسية تركيا تاريخياً على جيرانها المباشرين وحلفائها الغربيين. وأجرت تركيا جزءاً كبيراً من تجارتها مع أوروبا منذ سنوات الحرب الباردة الأولى، وربطت أمنها بحلف شمال الأطلسي (الناتو) عندما انضمت إليه عام 1952.
واليوم، تتنامى علاقات أنقرة بالعالم غير الغربي، كما أن اكتساب النفوذ في الجنوب العالمي أصبح ركيزة رئيسة في استراتيجية تركيا. وعام 2002، لم يتجاوز حجم تجارة البلاد مع الدول الآسيوية، بما في ذلك الصين وروسيا، نصف حجم تجارتها مع دول الاتحاد الأوروبي. وبعد عقدين من الزمن، باتت قيمة تجارة تركيا مع آسيا أكبر منها مع أوروبا. وقفز حجم تجارة تركيا مع الدول الأفريقية أكثر من 50 في المئة بين عامي 2014 و2024، من 21.2 مليار دولار إلى 33.3 مليار دولار. كما ارتفع عدد السفارات التركية في القارة التي تضم 54 دولة من 12 عام 2002 إلى 44 سفارة بعد 20 عاماً. وفي إطار خطة طويلة الأمد لتصبح قوة وسيطة في أفريقيا جمعت الحكومة التركية العام الماضي قادة إثيوبيا والصومال لإجراء مفاوضات بغرض إنهاء نزاع البلدين حول خطط إثيوبيا لبناء ميناء في إقليم صوماليلاند، وهي منطقة انفصالية لها حكومتها الخاصة في شمال الصومال. وتسيّر الخطوط الجوية التركية، الناقل الوطني، رحلاتها الآن إلى 130 دولة، وتصف نفسها بأنها الشركة التي “تسيّر رحلات إلى معظم دول العالم”.
ودفع عدم الاستقرار الإقليمي وتدهور العلاقات الأمنية مع الشركاء الغربيين تركيا إلى تطوير تقنيات الدفاع والفضاء المحلية. وغذت الاستثمارات الحكومية والخاصة واسعة النطاق نمو صناعة الطائرات من دون طيار في تركيا. واستخدمت مسيّرة “بيرقدار” ضمن صراعات مختلفة، بما في ذلك في ليبيا وناغورنو قره باغ وسوريا وأوكرانيا، وتصدر الآن إلى أكثر من 30 دولة. وبحلول عام 2024، ارتفع إجمالي صادرات تركيا من الأسلحة الجوية والدفاعية إلى 7.2 مليار دولار، أي بزيادة تقارب 30 في المئة عن العام السابق. واعتباراً من عام 2023، أصبحت ثلاث شركات دفاعية تركية من بين أكبر 100 شركة في العالم من حيث عائدات الأسلحة.
ووسعت أنقرة نطاق شركائها الدوليين في مجالات أخرى أيضاً، ويعود ذلك جزئياً لسعيها إلى ترسيخ مكانتها كدولة تؤدي دور صلة الوصل التي تدعم تدفق الاستثمار والنقل والطاقة بين آسيا وأوروبا. وعام 2012، حصلت تركيا على صفة “شريك حوار” لمنظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين، وهو تحالف يبرزه صانعو السياسة الأتراك أحياناً، لأغراض المناورة السياسية أكثر من الاقتناع، كبديل لعضوية تركيا المتجمدة في الاتحاد الأوروبي. كما أن تركيا انضمت إلى “مبادرة الحزام والطريق” الصينية عام 2015. ويعود ذلك لرغبة تركيا في دمج مشروع الممر الأوسط الخاص بها الذي يمثل تصوراً يطمح إلى ربط شرق آسيا بأوروبا عبر آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا، مع “مبادرة الحزام والطريق” في شبكة عابرة للقارات. وضخت الشراكات بين القطاعين العام والخاص في تركيا منذ عام 2011، نحو 115 مليار دولار للإنفاق على مشاريع الطرق السريعة والجسور والموانئ والمطارات بهدف تحسين الشطر التركي من تلك البنية التحتية. وفي أهم خطوة اتخذتها حتى الآن نحو التوافق مع الاقتصادات غير الغربية، تقدمت تركيا العام الماضي بطلب للانضمام إلى مجموعة “بريكس”، وهي الكتلة التي تتمتع بنفوذ متزايد بقيادة البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
اقتصاديات التحوط
وفي وقت تسعى تركيا وراء تحالفات خارجية متعددة، فاتها أن تراعي باستمرار نقاط الضعف التي يعانيها موقفها المتضارب. وتتيح التعددية القطبية ربما فرصاً اقتصادية، بيد أنها تفاقم الأخطار أيضاً. وربما يأتي تعزيز الشراكات في منطقة ما على حساب العلاقات في منطقة أخرى. ولكي تنجح تركيا في السير على هذا الحبل المشدود، كغيرها من القوى المتوسطة، ستحتاج إلى ضبط النفس وفهم واقعي لإمكاناتها.