رأي

مصر وقطر بين إسرائيل وحماس

كتب محمد أبوالفضل, في “العرب”:

في ذروة الخلافات مع قطر بسبب انحيازها لدعم التيار الإسلامي تحاشت مصر أن تكون القضية الفلسطينية موضع مساومة وتراشق وهي تعلم أن الجغرافيا والتاريخ والمكانة والدور الإقليمي سوف تنتصر لها.

لعبت مصر دورا مهما بمفردها على مدار سنوات ماضية في ترتيبات التواصل بين إسرائيل وحركة حماس، وأسهم الطرفان الأخيران، ومعهما الولايات المتحدة، في توسيع الطريق أمام دخول قطر على الخط لاعتبارات مختلفة، بينها محاولة إيجاد شريك يمنع مصر من احتكار دور الوساطة وحدها، والذي اكتسبته بحكم الجغرافيا السياسية والعلاقة الهيكلية مع القضية الفلسطينية، في زمني الحرب والسلام.

القاهرة تعاملت مع الدوحة بطريقة دبلوماسية، وتجنبت الدخول معها في مناوشات جانبية بسبب هذه القضية القومية وهي تراها تقترب تدريجيا تارة من إسرائيل، وتارة أخرى من حماس واستطاعت أن تعزز علاقتها معهما، في مفارقة سياسية نادرة.

في ذروة الخلافات مع قطر بسبب انحيازها لدعم التيار الإسلامي، تحاشت مصر أن تكون القضية الفلسطينية موضع مساومة وتراشق، وهي تعلم أن الجغرافيا والتاريخ والمكانة والدور الإقليمي سوف تنتصر في النهاية لها، ولم تظهر القاهرة امتعاضا سياسيا في خضم انهماكها مع الدوحة في جولات متعددة، تنقلت بين عواصم مختلفة، لعقد صفقة بين إسرائيل وحماس، لأن الهدف وقف العدوان على قطاع غزة، وليس البحث عن دور.

استبعاد الدوحة أو تخفيض مستوى حضورها الدبلوماسي يعزز تهميشها في المستقبل، لأن النافذة التي أدخلت الدوحة منها المساعدات الاقتصادية لغزة اختفت مع اندلاع الحرب

لم تهتم القاهرة عندما حاولت بعض الجهات العربية ذات التوجهات العقائدية الإيحاء بأن قطر وسيط رئيسي لمجرد أن الخطاب الإعلامي لقناة الجزيرة ينحاز إلى حماس، وجرى القفز على المحددات المركزية في القضية الفلسطينية التي تميل جميعها لصالح مصر.

وجاءت صدمتان كبيرتان، إحداهما تراكم الضغوط الأميركية والإسرائيلية على الدوحة، واتهامها بأنها أسهمت في تضخم حماس، وتمويل عملية طوفان الأقصى، والأخرى اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة في طهران، الذي اتخذ من الدوحة مقرا لإقامته.

القيادة القطرية نجحت في استيعاب ما خلّفته الصدمة الأولى التي هدفت إلى حث الدوحة على ممارسة ضغوط على حماس لتقديم تنازلات في المفاوضات، ولوّحت بإمكانية إعادة النظر في الوساطة وعلاقتها بقيادات وعناصر الحركة، مؤكدة أن تطوير العلاقة معها تم تحت بصر الأميركيين والإسرائيليين، وموافقة صريحة منهما.

من هنا هدأ تكرار الاتهامات السابقة رسميا، وتلاشت الانتقادات الموجهة للدوحة حول هذه العلاقة المقدسة وعادت لممارسة دورها في الوساطة بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة.

لم تفلح قطر في هضم نتائج اغتيال إسماعيل هنية في طهران، واستوعبت أن استهدافه كان يمكن أن يتم على أراضيها، وفهمت الرسالة من وراء عدم القيام بذلك، وعليها القيام بتحول لافت في علاقتها بحماس قريبا، والتي يريد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ألا يكون لها دور في المستقبل، وبالتالي لا دور لقطر في وساطة باتت على وشك الانهيار بعد تعيين يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي للحركة خلفا لهنية، ما يعني أن القضية الفلسطينية سوف يتم التعاطي معها بشكل مختلف في المرحلة المقبلة.

لن تعلن إسرائيل أو حماس رسميا انهيار المفاوضات، لكن الواقع يشير إلى صعوبة العودة إلى العملية السابقة، وأن تتنقل الوفود بين الدوحة والقاهرة من أجل تجسير الهوة والتوقيع على صفقة أصبحت شبه مستحيلة، فوضع السنوار على رأس الحركة يعني إجبار إسرائيل على المزيد من تعطيل الصفقة وربما إعلان الانسحاب منها، ففكرة التفاوض لدوران العملية السياسية ليست مجدية، ما يقوض المساحة التي تتحرك فيها قطر بحرية، ويمنح مصر فرصة للتحرك كدولة محورية في المنطقة، تواجه تحديات مباشرة لأمنها القومي.

ومع أن إسرائيل أبدت تحفظات على وساطة قطر ووجهت لها اتهامات مؤخرا، لكنها مالت إلى تفضيلها على مصر سابقا، وأسهمت في خلق مساحة اقتصادية وسياسية تحركت من خلالها لتخفيف هيمنة القاهرة على القضية الفلسطينية وتوابعها الإقليمية.

القاهرة تمكنت من تجاوز العقبات التي خلّفتها معاهدة السلام مع تل أبيب، وفي مقدمتها قطع صلتها بهذه القضية، ونجحت في إيجاد دور لها في جميع مراحل التسوية السياسية، وفوّتت الفرصة على محاولات تهميشها، وقبلت بتصورات سعى أصحابها إلى مساواتها مع قطر التي تبعد آلاف الأميال عن صراع على مشارف الحدود المصرية.

لم تفلح قطر في هضم نتائج اغتيال إسماعيل هنية في طهران، واستوعبت أن استهدافه كان يمكن أن يتم على أراضيها، وفهمت الرسالة من وراء عدم القيام بذلك، وعليها القيام بتحول لافت في علاقتها بحماس قريبا

لعبت التجارب التي خاضتها مصر مع إسرائيل وخبرتها في التعامل مع القضية الفلسطينية دورا في تحمل الصبر الإستراتيجي الذي تتحلى به القاهرة دوما، ويجعلها تتجاوب مع المتاح، أملا في تعظيم المكاسب منه لاحقا، لأن هدفها السلام وليس الحرب، والهدوء وليس افتعال الأزمات، والأمن وليس الدخول في المناكفات وخدمة أجندات معينة، ما دفعها إلى قبول ما يصعب قبوله أحيانا، وتعرضها إلى ابتزاز من قبل بعض الجهات لتترك الوساطة لقطر بمفردها، أو تشتبك مع إسرائيل على الحدود، وبهدوء نأت عن الخيارين.

فتحت المساهمة القطرية الرمزية في الوساطة والمفاوضات وتوصيل وتلقي الرسائل بين إسرائيل وحماس واحتمال تراجعها، ملفا حيويا يتعلق بالقوى التي تريد القفز على الثوابت الإقليمية، فمهما كان الحذر المصري في التعامل مع بعض القضايا المتفجرة في المنطقة، لا ينهي دورها، أو يلغي وجودها في الجغرافيا السياسية، أو يمنح مزايا لقوى أخرى لتحلّ مكانها، لأن الدور والجغرافيا والإحلال تحتاج إلى مكونات متباينة، لا تملكها دولة في حجم قطر، مع التقدير لاجتهاداتها وسعيها لإنعاش سياستها الخارجية في المحيط الإقليمي.

قد تمرض مصر أو تنهك أو تتراجع عن أداء دورها القيادي مؤقتا، إلا أن انخراطها في القضية الفلسطينية والقضايا التي تمسّ أمنها القومي عملية غاية في الأهمية، يستحيل أن تفرط فيه لغيرها، وإن بدا ذلك في مسألة النشاط الذي قامت به قطر فقد تم وفقا لحسابات دقيقة ولم تستطع الدوحة الجور صراحة على المحددات المصرية المرسومة ضمنيا.

وعندما تفقد الدوحة تماما ورقة الإسلام السياسي لن تحتل حماس المكانة نفسها في أجندة قطر، ومن ثم خروجها أو تهميشها في الترتيبات التي تخص القضية الفلسطينية.

يمثل وجود الدوحة في أيّ عملية سياسية بعيدة المدى بعد وقف الحرب على غزة، اعترافا مباشرا بأن كل ما قامت به حيال حماس كان مخططا وبالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة، لأن العملية المنتظرة لن تكون فيها الحركة رقما صعبا، ما يعني حدوث تغير كبير في التصورات القطرية.

كما يعزز استبعاد الدوحة أو تخفيض مستوى حضورها الدبلوماسي تهميشها في المستقبل، لأن النافذة التي أدخلت الدوحة منها المساعدات الاقتصادية لغزة اختفت مع اندلاع الحرب.

وتتشارك في قصة إعادة الإعمار المتوقع إثارتها بعد وقف إطلاق النار قوى إقليمية ودولية، لن تكون الدوحة قاعدة رئيسية فيها، لأن القاعدة في هذه الحالة من نصيب القاهرة التي سيتزايد دورها عندما يحين موعد ترسيم خارطة القطاع وهو على مرمى حجر من مصر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى