مصر والسودان وبينهما إيران
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
في خضم قضايا شائكة لم يجر تجاوزها احتفظت مصر وإيران بصيغة لا يمثل فيها أي طرف منهما تهديدا للطرف الآخر على الرغم من أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بينهما نظريا.
كتب على العلاقات بين مصر والسودان أن تظل متذبذبة، كلما استقرت على حال من الهدوء تجد ما يعكر صفوها، أو يَحْدُثَ بها توتر فتجد ما ينقذها ويعيدها إلى الهدوء، وقد شهدت خلال العقود الأربعة الماضية صعودا وهبوطا لافتين.
عندما لاحت فرص الاستقرار عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير والتخلص من منغصاته قبل نحو خمس سنوات، أظهرت قوى مدنية خلافا لا يقل حدة، ومع اشتعال الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع منذ حوالي عام، انحازت القاهرة إلى الأول، ثم فوجئت بتغلغل عناصر لها توجهات إسلامية في صفوف المؤسسة العسكرية النظامية، وانفتاح قيادته على إيران التي لها طموحات كبيرة في السودان.
فتح الحديث عن استخدام الجيش السوداني لطائرات مسيرة إيرانية في حربه ضد الدعم السريع الباب لنسج علاقة قوية بين الخرطوم وطهران، ربما تستغلها الأخيرة في التسلل مرة ثانية إلى السودان، وتعيد تصحيح أخطاء تسللها الأول سياسيا وعسكريا وثقافيا إبان عهد البشير الذي اضطر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها إرضاء لدول عربية، في مقدمتها السعودية التي وجدت في التواجد الإيراني تهديدا لمصالحها.
تأتي العودة هذه المرة في ظل تحولات من أبرزها الحرب التي يواجه فيها الجيش السوداني ضغوطا هائلة، وتحسن العلاقات بين طهران وكل من الرياض والقاهرة، وأوضاع خارجية ترفض ترسيخ أقدام إيران في شرق السودان، ويطل على البحر الأحمر ويمثل أهمية إستراتيجية كبيرة لقوى إقليمية ودولية عديدة لا تريد رؤية طهران تكتسب أرضا جديدة في المنطقة، وخصوصا على هذا الممر الحيوي بعد تصاعد المخاوف من تهديدات جماعة الحوثي في اليمن التي تملك علاقات وثيقة بإيران.
راقبت القاهرة الكثير من المشاكل الإقليمية التي تتورط طهران فيها، وحافظ كل طرف على مصالحه ضمن سياق علاقة خالية من الخصومة المباشرة أو التهديدات المزعجة، لأن غالبية المناطق التي لإيران تواجد ملموس فيها ابتعدت عن الاعتداء من خلالها على المصالح المصرية، وهو ما ظهرت تجلياته في حرب السفن في جنوب البحر الأحمر وقادتها جماعة الحوثي، أو في قطاع غزة حيث تمتلك طهران شبكة علاقات قوية مع حركتي حماس والجهاد، أو حتى في لبنان عبر ذراعها حزب الله.
احتفظت مصر وإيران بصيغة لا يمثل فيها كل طرف تهديدا للآخر، وفي خضم قضايا شائكة لم يجر تجاوزها، على الرغم من أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بينهما نظريا، وكل الاتصالات التي جرت مع مسؤولين كبار في البلدين تجاوزت هذه القطيعة تمهيدا لعودة رسمية للعلاقات لم تحدث حتى الآن.
لكن أن تضع إيران قدما في السودان وسط أوضاعه الهشة الراهنة فهذا قد يمثل خطرا لمصر مستقبلا، خاصة أن ما يعرف بدبلوماسية المسيرات سبق وأن عانت منها القاهرة في ليبيا عندما زودت تركيا فريقا من المتصارعين في الغرب بها وساندته عسكريا بقوات ومعدات على حساب فريق آخر انحازت إليه مصر في شرق ليبيا، ثم تبين أن المسيرات مقدمة لما هو أخطر جاء من بعدها.
مع أن المعادلة في السودان مختلفة، فتزويد المسيرات الإيرانية تم لصالح قوات الجيش، إلا أن مصر تنزعج من التدخلات الخارجية في الدول المجاورة عموما، وتراها أداة لتغذية الحروب واستمرارها فترة طويلة، وتُوجِد تلك التدخلات نوعا من سباق التسلح بين القوى المتصارعة، فقوات الدعم السريع لن تتوقف عن البحث عن جهات تمدها بمسيرات وأنواع عدة من الأسلحة، هكذا يتحول السودان الملاصق لمصر إلى تهديد مباشر لأمنها القومي، تشارك فيه إيران عبر مد أحد أطرافه بمسيرات الآن، ثم توثيق العلاقات معه للحصول على امتيازات حيوية على البحر الأحمر.
مهما كانت درجة الهدوء بين القاهرة وطهران، لكنه هدوء لم يُختَبر في محك مزعج في السنوات العشر التالية لسقوط نظام جماعة الإخوان في مصر، إذ ارتضى كل طرف بعد قياس تبعات السقوط تجنب الصدام، ومضى مسار العلاقات على هذه الوتيرة، وتجاوز البلدان اختبارات كانت إيران طرفا رئيسيا فيها، سواء في اليمن أو سوريا، وقبلهما العراق ولبنان والخليج، وصولا إلى المناوشات الحالية بسبب الحرب على غزة وما تمخض عنها من ارتدادات إسرائيلية – إيرانية.
وصول إيران إلى مياه السودان أو اليابسة سوف يخرق الصمت أو الهدوء الذي ظهر على العلاقات بين القاهرة وطهران الفترة الماضية، حتى ولو أدت مساعدات إيران إلى تفوق الجيش السوداني الذي تراه مصر القوة النظامية التي يمكنها أن تحفظ أمن واستقرار البلاد، فلا توجد دولة تقدم مساعدات مجانية، فما بالنا إذا كانت عسكرية ومن إيران التي اعتادت أن تضمن ثمن ما تعطيه مسبقا.
تكمن المشكلة في تزامن وصول الدعم الإيراني مع ارتفاع صوت الحركة الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية السودانية، ويعتقد أصحاب هذا الصوت أن التحالف مع طهران أداة قوة وردع لقوات الدعم السريع، الأمر الذي يقلق القاهرة وهي التي خاضت معارك ضارية ضد قوى أيديولوجية تاجرت بالدين فترة طويلة، ورأت هذه القوى أن المسلم الإيراني أو الفلبيني أقرب إليها من القبطي المصري.
كون مصر مستفيدة من الهدوء في علاقتها مع إيران لا يعني أنها تقبل تواجدها في السودان لتنقل تجاربها في الدول التي دخلتها، وربما تكون التجربة في السودان أشد خطورة، حيث يحوي هذا البلد تيارا إسلاميا متشددا، وأوضاعه الأمنية مهتزة بما يجعله عرضة للاختراق، وتوجد بقايا عداوات من قبل جهات سودانية للقاهرة، ومن غير المستبعد أن تدخل في تصفية حسابات معها باستخدام الأداة الإيرانية لاحقا.
قد يكون رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان استبق الهواجس المصرية، ومخاوف قوى إقليمية ودولية أخرى، من الرمزية الإسلامية التي تنطوي عليها المسيرات الإيرانية، وكال اتهامات لعناصر تناصر هذا الاتجاه مثل كتيبة البراء، لكنه يحتفظ بالورقة للمناورة، وهل يمكن أن تدفع قوى لا ترتاح للتواجد الإيراني في السودان لتقديم مساعدات عسكرية بدلا منها أم يمضي في طريقه مع طهران.
عرفت قوى عديدة ألاعيب البعض من القادة في السودان وبراغماتيتهم منذ عهد البشير، ولم يفلح هذا الاتجاه في تحقيق مكاسب لهم وقت أن كانت الأوضاع أكثر هدوءا، ولذلك إذا كانت إيران ورقة للمناورة أو أداة لإرسال إشارات لقوى إقليمية، فإن نتيجتها لن تكون بالضرورة مجدية، فهي لن تغامر في هذه المرحلة على الأقل بفتح مواجهة جديدة مع مصر وخسارة ما حققته من هدوء دبلوماسي معها، وهذا لا يعني أن تغمض القاهرة عينيها عما يجري من قبل طهران في السودان.