مصر في مواجهة التهجير… مهام ملحّة وإسناد عربي ضروري

كتب عصام شعبان في صحيفة العربي الجديد.
تضيف تصريحاتُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المُطالِبةُ مصرَ والأردن استقبال أهالي غزّة، ضغوطاً مستجّدةً على القاهرة بعدما تحوّل التهجير من هاجس منذ بداية العدوان إلى خطّة للنقاش وأرضية لممارسة الضغوط والابتزاز، ومعها لم تعد مساعي مصر مقتصرة على وساطة من أجل هدنة تُوقِف العدوان، وتُنهي وجود الاحتلال في غزّة، بل استجدّت كيفية مواجهة أطروحات التهجير بتصوّرات بديلة متوافق عليها، تحظى بدعم عربي ودولي، خاصّة مع تكرار ترامب تصريحاته كلّما التقى وسائل الأعلام، ورغبته في الاستيلاء على القطاع، وبناء مشاريع سياحية، وربّما الاستثمار في ملف الغاز.
وتتعارض دعاوى التهجير مع مصالح مصر، بما تحمله من تغير الجغرافيا السياسية لقطاع غزّة، كما تنفي مسار التسوية السياسية، حلّ الدولتَين، الذي عاد مجدّداً ليُناقش بين أطراف دولية، بعد “7 أكتوبر” (2023)، بما في ذلك إدارة بايدن، لكن خلفه يريد تسوية الصراع نهائياً، بنفي طرفه الفلسطيني، عبر تهجير سكان غزّة، وضمّ الضفة الغربية، وتصريحات تمثّل تجديداً لخطابات الاستعمار القديم. وبلغة يملؤها الغرور، يستدعي ترامب موافقة دول المنطقة ويضغط عليها لكي تبصم على صفقة عارية من أوهام التطبيع والتكامل الإقليمي، التي طرحها في ولايته الأولى (صفقة القرن) وروّجت أوهام السلام الدافئ والتنمية، وغيرها من مشهّيات الطبخة المسمومة، وسوّقت أطرافها العربية بأن التطبيع يوفّر فرصاً لقيام الدولة الفلسطينية ويوقف الاستيطان.
وتفيد الوقائع بأن مخطّطات الضمّ تسارعت بعد الاتفاقيات الإبراهيمية. لم يوقف التطبيع الاستيطان، بل تسارعت خطواته، كما توسّعت عمليات جيش الاحتلال في الضفة الغربية، منذ مايو/ أيار 2023، وما زالت مستمرّة، وتتضمّن اقتحامات وحملات اعتقال، وجرائم قتل شملت أطفالاً، وحسب تقرير نشرته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في العاشر من فبراير/ شباط الجاري، هُجِّر نحو 40 ألف فلسطيني من مخيّمات اللاجئين، التي أصبحت غير صالحة للسكن، وهناك حالة حرب بالتركيز في مخيّمات شمال الضفة، أدّت إلى إصابة سبعة آلاف، رغم الهدنة في غزّة، لكنّ النزوح حاضر في الحالتَين.
بات التهجير، الذي يمثّل جريمة حرب أخرى، مطروحاً على الطاولة كمشروع ترامب، ويلبّي أغراض حكومة الاحتلال وتوجّهات بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر نفسه مُجدّداً للصهيونية
وبات التهجير، الذي يمثّل جريمة حرب أخرى، مطروحاً على الطاولة كمشروع ترامب، ويلبّي أغراض حكومة الاحتلال وتوجّهات بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر نفسه مُجدّداً للصهيونية، يُعيد بالحرب لحظة تأسيس إسرائيل، كما قال سابقاً، مع خطوات للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطينياً بالاستيلاء على الأرض وترحيل سكّانها، وهو جوهر الصهيونية وغايتها. ويقدّم ترامب نفسه شريكاً بأن يحلّ مع المستوطنين مستثمرون أميركيون ينفّذون مشاريع استثمارية في أراضي غزّة توفّر فرص عمل وتنمية لصالح شعوب المنطقة. وضمن مكامن الخطورة تشجيع واشنطن للتهجير، مع دعاية قديمة تُجدّد، قالها شارون من قبل، وردّدها سياسيون بعده، وتناولتها بالنقاش مراكز أبحاث في دولة الاحتلال، أن قطاع غزّة شأن مصري، وحلّ مشكلته عبر التوطين في سيناء، يكمّلها ترامب بالقول إن مساحة إسرائيل قياساً بدول الشرق الأوسط محدودة.
أمام هذا التطوّر، تتصدّر مصر مشهد رفض التهجير، بحكم تأثيره المباشر فيها، والمخاطر والتداعيات الناتجة منه، إلى جانب عوامل الارتباط جغرافياً، وروابط تاريخية بالقضية الفلسطينية، وتؤكّد في خطابها رفض المساس بحقوق الفلسطينيين، كما جاء في بيان وزارة الخارجية، عقب زيارة بدر عبد العاطي لواشنطن، وتحاول من جانب آخر، وعبر التنسيق مع الوسيط القطري وفصائل المقاومة، إنقاذ اتفاق الهدنة من الانهيار، مشدّدةً على تنفيذ البروتوكول الإنساني، بما في ذلك دخول مستلزمات الإيواء والإغاثة، وتحضّر لتقديم رؤية شاملة لإعادة الإعمار، بالتعاون مع الدول العربية والهيئات الأممية، تضمن بقاء الفلسطينيين في أرضهم.
ومع أصداء تصريحات ترامب، وشروع إسرائيل ببحث سبل تنفيذ المخطّط، بما في ذلك احتمال الحرب في بعض مناطق القطاع، وتكديس السكّان كما جرى في رفح خلال شهر مايو/ أيار الماضي، أصدرت وزارة الخارجية بيانات متواترة وذات لهجة واضحة بالرفض، كما أبلغت واشنطن بأن اتفاقية السلام تواجه خطراً بسبب هذه المقترحات، التي تمثّل تهديداً لأمنها القومي وتخلق ساحةً للتوتّر، وبجانب شرح تداعيات الحرب على القاهرة، ومشاغل ذاتية، ارتكزت البيانات في جانب منها على مواقف مبدئية، رفض حرب الإبادة والعدوان، والاصطفاف مع الحقّ الفلسطيني في الاستقلال، مع الثبات على طرح حلّ الدولتَين إطاراً للتسوية ينتهي بإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. هذه المواقف تتزامن مع تنسيق عربي، بدأ في اجتماع وزراء الخارجية، والاتصالات التحضرية للقمة العربية المقبلة، بجانب تنسيق مصري أردني، وإظهار السعودية مواقفها من التطبيع، والتشديد على إقامة الدولة الفلسطينية، ورفض التهجير من جانب الجزائر ومعظم الدول العربية. وبجانب الرسائل الدبلوماسية، حرصت القاهرة على إظهار التعزيزات العسكرية بالقرب من رفح، مع إرجاء السيسي زيارته لواشنطن (نشرتها الصحف من دون إعلان رسمي)، ربّما انتظار لبلورة موقف عربي موحّد تحمله القاهرة، ويقوّي ساحتها، وهي كلّها رسائل تعلن رفض التهجير، يحتاج تطويرها إلى أفعال تدعم موقف مصر، ولا تقف عند خلق تعبئة وطنية، بصحّة التوصيف وصدق العبارات، بينما الفعل الشعبي مُكبَّل، والرسمي مُتأخِّر.
تتصدّر مصر مشهد رفض تهجير سكّان غزّة، بحكم تأثيره المباشر فيها والمخاطر والتداعيات الناتجة منه
وسبق وأشار الكاتب، مع بداية الحرب، إلى مهام وخطوات ضرورية لمواجهة القاهرة تحدّيات الحرب، التي تتطلّب تغيرات في التحالفات وتوجّهات السياسة الخارجية، مقرونة بأفعال تؤكّدها، دفاعاً عن نفسها، وحفظاً لمكانتها ومصالحها، ما كان يمثّل عاملاً يساهم في صدّ جرائم الاحتلال. واليوم، هناك ضرورة قصوى لوقف سيناريو التهجير بأن تكون الحياة ممكنةً في القطاع، بالتركيز على الإغاثة وإدارة غزّة فلسطينياً والإعمار، والملفّات الثلاثة تتطلّب أولاً التصدّي لدعاوى استكمال الحرب على القطاع، التي تستخدم أداةً ودافعاً إضافياً للتهجير. وثانياً، مواجهة العوائق التي تفرضها إسرائيل لسير البروتوكول الإنساني، ومنها تأخير خروج المرضى للعلاج، ودخول الخيم والبيوت المتنقلّة (الكرفانات) ومعدات لإزالة الركام، غير التعامل مع مخلّفات الحرب، وكان للتنسيق بين الوسطَين وفصائل المقاومة، دوراً في الدفع بتنفيذ جزئي للبروتوكول ضمن اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى، لكن ما زالت أعمال الإيواء لا تناسب عدد النازحين (ما يقارب 90% من السكّان)، إلى جانب تدمير الاحتلال شبكات الكهرباء والمياه، ومعظم مؤسّسات القطاع الصحّي، ما يُفقِد الحدّ الأدنى للعيش، وذلك يتطلّب أوسع تعاون ممكن في الإغاثة، وفكّ حصار الاحتلال عن سكّان القطاع. يبدأ بتنفيذ البروتوكول بدخول 150 ألف خيمة، و60 ألفاً من البيوت المتنقلة، حلّاً مؤقّتاً خلال مفاوضات الهدنة وحتى بداية الإعمار، مع دعم أدوار “أونروا” والدفاع عن وجودها، مع التفكير كيف يمكن أن تدار شؤون سكّان القطاع حتى بداية الإعمار وإعادة إسكانهم، من دون تفجّر الوضع المعيشي، وبروز مشكلات ما بعد الحرب.
وثالثاً، إشراك القوى الوطنية الفلسطينية كافّة في بحث ملفّات مستقبل غزّة، سواء بحكومة وحدة أو عبر مقترح لجنة إدارة غزّة، الذي تعثّر، وتنفيذه ضروري في مواجهة احتمالات دخول أطراف تُقدَّم بوصفها بديلاً تحلّ سلطةً في القطاع، وتُحدِّد من يبقى ومن يرحل. والتوافق حول إدارة غزّة، لا يعرقل احتمالات التهجير وحسب، لكنّه أيضاً يساعد في تجاوز إشكالية الانقسام الفلسطيني سياسياً وجغرافياً، واستجابة السلطة الفلسطينية لهذا الحلّ باتت ضرورةً، مع إعادة بناء منظمة التحرير، وإحياء وتفعيل دورها، وهذا أيضاً يؤمّن ساحة مصر لتنفيذ مهام الإعمار مستقبلاً، وييسّر لها أن تلعب دوراً مسانداً بالتوافق مع المكوّنات السياسية في القطاع.
تحتاج مصر إلى موقف عربي مساند، فلا تبقى والأردن تواجهان التهجير بوصفه مشكلة ذاتية
رابعاً، وعلى مستوى دبلوماسي، هناك ضرورة لوجود حشد عربي يعلن مساندته مشروع الاستقلال الفلسطيني، بما في ذلك دعماً سياسياً لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي تمثّل نسيجاً للشعب، وقيادة حقيقية له، وعلى مستوى دولي، من المهم أن تشرع مصر بتقديم شكوىً إلى مجلس الأمن بشأن اختراقات إسرائيل لاتفاقية السلام، وتعلن تعليق الاتفاقية، ورغبةً في تعديلها، لتدافع عن نفسها، استباقاً لاحتمالات رفض الاحتلال الانسحاب من محور صلاح الدين وفقاً لمفاوضات الهدنة، على أن يتناول خطاب القاهرة الإجرام الإسرائيلي ضمن مشهد كلّي يرفض الاعتداء على أراضي سورية ولبنان، بالمخالفة لقرارات اتخذها المجلس في هذا الشأن.
خامساً، الانضمام إلى التجمّعات والدعوات التي تطالب بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب في فلسطين ولبنان واليمن، والتوجّه إلى الآليات الدولية المختصّة، كما موقف جنوب أفريقيا، ومطالبة حكومة الاحتلال بدفع تعويضات عن الخسائر في قطاع غزّة، والإشارة بشكل واضح إلى أن دعم واشنطن المطلق للاحتلال، وإسناد حلفائها الأوروبيين، يؤثّران في علاقات الشراكة والمصالح المتبادلة والأمن والاستقرار في المنطقة، مع رفضٍ للتهديدات والابتزاز الأميركي في ملف المساعدات. في جانب آخر، من المهم كسب أكبر تأييد ممكن لقضية الشعب الفلسطيني في مختلف الساحات، بالتعاون وبناء الجبهات مع القوى الإقليمية المناوئة للاحتلال، سواء داخل أروقة الأمم المتحدة، التي تشهد كثير من هيئاتها هجوماً أميركياً إسرائيلياً (كما اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان)، أو آليات خارجها، كما تجمّع لاهاي، ونشاط جنوب أفريقيا في مواجهة إسرائيل ودعماً للقضية الفلسطينية، مع تعليق أشكال التعاون مع الاحتلال كافّة، وبحث سبل التكامل الإقليمي بين الدول العربية تصوّراً استراتيجياً ينطلق من حقائق أن سياسات إسرائيل تمثّل عدواناً مستمرّاً، ولها أطماع تتوسّع في الشرق الأوسط.
وأخيراً، ومع الاعتبار لإمكانيات مصر ودورها تاريخياً، فهي تحتاج إلى موقف عربي مساند في هذه المهام كلّها، ولا تبقى هي والأردن في الواجهة، بوصفهما يواجهان مشكلة ذاتية هي التهجير.