«مصر تتحدث عن نفسها»

كتب صلاح الغول, في الخليج:
لا تزال عبارة شاعر النيل حافظ إبراهيم، تلك التي اتخذها عنواناً لقصيدته المشهورة، وشدت بها كوكب الشرق، أم كلثوم، أقول: لا تزال هذه العبارة هي خير تصوير لافتتاح المتحف المصري الكبير في غرة نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، وخير تعبير عن رسالة أقدم دولة في التاريخ للعالم بأنها تصون آثارها، وأقوى وصف عن حجم ونوعية الإنجاز الذي رأته الدنيا كلها.
والحق أن هذا الإنجاز لم ينزل من السماء، كما تنزل المعجزات آيات بينات على الأرض، ولم يخرج من النهر الخالد واهب الحياة لمصر كما يقول المؤرخون، ولا حمله إليها السحاب المسخّر بين السماء والأرض، ولا أرسله نجم من النجوم التي تجوب أجواء المحروسة، وإنما أنشأته أيادي المصريين والمصريات صرحاً عملاقاً، تجاوزت كلفته المليار دولار، ويضم في رحابه آثار أجدادهم العظام، من بناة الأهرام في مصر القديمة إلى رمسيس الثاني الفاتح العظيم الذي آثر أن ينتقل من ميدانه عند محطة مصر حيث سكن منذ عام 1955 إلى موقعه الجديد في المتحف الكبير ليستقبل زواره، وأخناتون رائد التوحيد، والملك الشاب المعجزة توت عنخ آمون.
كنت شاهداً على هذا الحدث التاريخي، حيث كنت في زيارة خاصة لأرض الكنانة، كما شهدته نخبة كبيرة من قادة العالم وسياسييه (نحو 79 وفداً رسمياً، بينها 39 وفداً برئاسة ملوك وأمراء ورؤساء دول وحكومات) ومفكريه ومؤرخيه وأدبائه وفنانيه، فضلاً عن جموع غفيرة من المواطنين المصريين والعرب والأجانب في تظاهرة ثقافية كونية ندر أن يوجد مثلها في عالم يأخذه التوتر والاضطراب، بل والانقسام من كل أقطاره.
الواقع أن افتتاح المتحف الكبير ليس حدثاً تاريخياً، وصفه البعض بأنه يماثل افتتاح السد العالي في مطلع ستينيات القرن الماضي، بالقياس إلى حجم ومستوى الحضور فحسب، ولكن، وهو الأهم، لأنه يعد أكبر متحف من نوعه في العالم، يضم آثار ومعالم حضارة واحدة، هي الحضارة الفرعونيّة، أقدم حضارات العالم المعروفة. ويمتد المتحف الكبير على مساحة 500 ألف متر مربع، أي ما يُعادل مساحة 70 ملعب كرة قدم أو ضعف مساحة متحف اللوفر في فرنسا، ليصبح أحد أضخم المشاريع الثقافية في العالم. ويضم المتحف الكبير أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بعضها يعود إلى أكثر من 700 ألف سنة، إلى جانب أقدم تمثال في التاريخ عُثر عليه في تل الفرخة بمحافظة الدقهلية ويعود إلى نحو 6 آلاف سنة قبل الميلاد، وكنوز تُعرض لأول مرة منذ اكتشافها، مثل المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون.
ويضيف إلى روعة الحدث عبقرية المكان. ولا أقصد به عبقرية جغرافيا مصر، وإنما أقصد عبقرية موقع المتحف على مرمى نظرٍ من أهرامات الجيزة الثلاثة التي تعد إحدى عجائب الدنيا السبع.
المتحف الكبير ليس مجرد متحف، بل وثيقة مفتوحة على آلاف السنين من الذاكرة الإنسانية، تُعيد تعريف المكونات الأساسية للحضارة المصرية القديمة. وبرغم أنّ الحضارة الفرعونية فصلٌ رائع في كتاب وصف مصر، فإنّ الحضارة المصرية على الأقل منذ توحيد البلاد في 3200 ق.م. حتى اليوم عبارة عن مجموعة من العناصر المتنوعة والمترابطة التي شكلت هوية مصر، محورها الأساسي الإنسان المصري، وشريانها الرئيسي هو نهر النيل، وعبقريتها تنبع من موقع مصر الجغرافي المتوسط بين قارات العالم القديم وحضاراته، والمادة التي تُمسك بعناصر الحضارة المصرية هي النظام الإداري المركزي، وروحها هي دينها أو عقيدتها الدينية من تعدد الآلهة ثم التوحيد أيام أخناتون مروراً بالمسيحية وصولاً إلى الإسلام. وهناك عناصر أخرى تُشكل الحضارة المصرية، يأتي في مقدمتها اللغة والكتابة والفن والعمارة والعلم والمعرفة.
وقد افتتحت أبواب المتحف للجمهور بدءاً من يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. ومن المتوقع أن يفضي إلى طفرة سياحية على أعلى مستوى.
فوفقاً لبعض التقديرات، من المتوقع أن يجذب المتحف وحده نحو 5 ملايين زائر سنوياً، ما يُسهم في تنشيط الاقتصاد الوطني، وتعزيز مكانة مصر على خريطة السياحة العالمية. وهذه الطفرة السياحية مردها الدعاية المجانية لمصر وآثارها، التي صاحبت افتتاح المتحف الكبير، الذي نقلته الفضائيات والإذاعات والصحف والأفواه إلى أرجاء المعمورة.
وقبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، يسهم المتحف الكبير في تعزيز القوة الناعمة لمصر، وهي أبرز ما تتمتع به البلاد على مر العصور.




