رأي

مصر المحورية تتأقلم مع الأزمات الإقليمية

كتب محمد أبوالفضل, في “العرب”:

الهدوء أو التريث أو الحذر ومهما كانت المسميات والتوصيفات التي يمكن استخدامها لتفسير تكيف مصر مع بعض الأزمات الإقليمية يصعب القول إنه كان خيارا صحيحا فهو لم يبعدها عن المخاطر.

تستمد الدول المحورية مكانتها ودورها على مسرح العالم أو الإقليم مما تملكه من أدوات للتأثير وقدرة عالية على التفاعل مع التغيرات والتحولات والتحكم في مساراتها أو بعضها، وأخذت دراسات عديدة مصر نموذجا في ملف الصراع العربي – الإسرائيلي واستند البعض إلى المعادلة الشهيرة “لا حرب ولا سلام مع إسرائيل بدون مصر”، حتى سقطت أعمدتها في السنوات الماضية، ولم تعد القاهرة طرفا في المعادلة السابقة، فقد اندلعت حروب من دونها، وعقدت اتفاقيات سلام في غيابها.

تفسر تطورات داخلية مختلفة جزءا من هذا الغياب أو بمعنى أدق التراجع، حيث مرت الدولة المصرية بأحداث متباينة في الفترة الماضية جعلت قيادتها تولي اهتماما كبيرا بترتيب الأوضاع المحلية، في مقدمتها استعادة الهدوء والأمن والاستقرار، ومواجهة تحديات اجتماعية واقتصادية دقيقة، جاءت على حساب نواح سياسية مهمة، نجحت الدولة في الشق الأول، وتعثرت في الشق الثاني، وبدأت تجني مسالب الشق الثالث الذي كان يمكنه التنبيه إلى مخاطر عدم منح البعد الخارجي الاهتمام الذي يستحقه.

وتفسر الرؤية الرسمية للدور وطبيعته وحدوده جانبا أيضا في عملية تراجع التأثير الإقليمي، حيث يتطلب دفع تكلفة سياسية أو عسكرية، أو الاثنين معا، وهو ما بدت القاهرة محجمة عنه ومفضلة الانغماس في المشاكل الداخلية التي لا تنتهي، وربما جزء منها ناجم عن روافد خارجية، وسواء أكانت الروافد مقصودة أم صدفة، ففي الحالتين يمثل الاشتباك المباشر مع القضايا، خاصة تلك التي تهم الأمن القومي المصري، مسألة غاية في الأهمية، لأن خيار التأقلم معها والسعي للبعد عن الارتدادات السلبية لن يجعل مصر بمنأى عن المخاطر التي تحملها بعض التطورات الإقليمية.

إذا امتلكت القاهرة مشروعا ورؤية ومنهجا وبرنامجا عمليا ومحددا في القضايا الإقليمية العديدة التي تحيط بها، من السهولة أن تسترد عافيتها ومحوريتها في التأثير على ملفات باتت نتائجها تقترب من تقزيم مصالحها الإستراتيجية

لا أحد ينكر أن القاهرة بذلت جهودا في التفاعل مع أزمات ليبيا وغزة والسودان وسد النهضة الإثيوبي واليمن والعراق وسوريا وغيرها، لكنها لم تكن لها الكلمة الفصل، وتعاطت بدرجات متفاوتة مع كل منها، دون اشتباك يتناسب مع مكانتها وجغرافيتها السياسية، وحافظت على الحد الأدنى من الانخراط، الذي يضمن عدم انزلاقها عسكريا في أي من الأزمات السابقة، حيث لديها قناعة بأن فخا ما قد ينصب لها في يوم ما، ويورطها بالصورة التي يصعب معها الخروج وتحاشي النتائج السلبية.

دار خلاف داخل النخبة المصرية حول قضية الانزواء عن القضايا الحيوية أو التفاعل معها والتدخل فيها، وكان هناك فريقان، أحدهما يتبنى الصيغة الأولى (الانزواء)، والآخر يدعم الثانية (التفاعل)، وتؤكد الشواهد الحالية أن رؤية الفريق الأول تفوقت، وإن كانت حاولت الأخذ بجزء هامشي من رؤية الفريق الثاني.

تكمن المشكلة في أن الطريق الأول أخفق في تحقيق أهدافه، وأبرزها التغلب على الأزمات الاقتصادية وتهيئة الدولة لانطلاقة حقيقية على مستويات شاملة للتقدم من الداخل، وربما هذا الاتجاه قد حرم مصر من فرصة إقليمية كان يمكن استثمارها لتصبح أكثر مركزية في التأثير على القضايا التي تهمها، فاليقين بأنها دولة محورية يتطلب التضحية والمغامرة والقبض على بعض المقومات الرئيسية في أي من الأزمات المحيطة بها، والمشكلة الأكبر أن جميعها له انعكاسات مباشرة على مصالحها.

الهدوء أو التريث أو الحذر، أو حتى الخوف من نسج مؤامرة. مهما كانت المسميات والتوصيفات التي يمكن استخدامها لتفسير تكيف مصر مع بعض الأزمات الإقليمية، يصعب القول إنه كان خيارا صحيحا، فهو لم يبعدها عن المخاطر، وكل الملفات التي شهدت سخونة مؤخرا ولم تظهر فيها القاهرة قوتها الكامنة تطوراتها مستمرة، وقد تحمل في أحشائها أضرارا بالغة في المستقبل، لأن هناك قوى إقليمية ودولية توظفها لصالحها وتحاول من خلالها تحقيق مكاسب، بعضها يمكن أن يضر بمصالح مصر.

في الفترة التي بدأت مصر تنكفئ على همومها الداخلية، بدأت تلوح في الأفق الإقليمي ملامح لتحولات نوعية، حيث انكسر العراق وسوريا وليبيا واليمن ثم السودان، وخشيت القاهرة أن تواجه المصير ذاته، فلجأت إلى ترتيب الأوضاع من الداخل، وهو ما بدا على حساب الخارج، وظهر الإقليم كأنه يبحث عمن يملأه عربيا، فمع تصاعد دور كل من إيران وتركيا وإسرائيل، تراجعت مصر أكبر دولة عربية يعول عليها أن تكون رقما موازيا أو متفوقا على هؤلاء، وتحاول بعض الدول الخليجية أو المغاربية سد هذه الثغرة، لكنها تحتاج إلى المزيد من الوقت، وتواجه عقبات إقليمية كبيرة.

تتسم غالبية الأزمات في المنطقة بقدر مرتفع من التعقيدات والتشابكات، وتحوي أجزاء غاطسة عميقة أحيانا، تجعل الاقتراب منها سياسيا أو أمنيا حذرا

تشير حصيلة السنوات الماضية إلى الحاجة المصرية إلى استدارة تمكنها من عدم الاكتفاء بالتأقلم مع الأزمات الإقليمية، والتفكير في أدوات تملكها وحدها أو بالتعاون مع دول عربية أخرى كي تعود إلى محورية دورها والتخلي عن الإطار التقليدي الذي بدأ يكبل تحركاتها، وجعل خصومها يعرفون المدى الذي يمكن أن تذهب إليه.

تتسم غالبية الأزمات في المنطقة بقدر مرتفع من التعقيدات والتشابكات، وتحوي أجزاء غاطسة عميقة أحيانا، تجعل الاقتراب منها سياسيا أو أمنيا حذرا، علاوة على أن التبدل الحاصل في القوى المنخرطة مباشرة في الأزمات أو تتحرك على هامشها، فلم تعد قاصرة على الدول والأنماط المعروفة للقوى الداخلية والخارجية التي تشتبك معها علنا أو سرا، فالحرب بالوكالة اتسع نطاقها، وتصاعدت قسماتها، وظهرت أنماط منها تتحدى دولا كبرى وتلعب أدوارا مركبة في أزمات عدة.

تأتي خطورة تكيف مصر كدولة مركزية، جغرافيا وتاريخيا وسياسيا، مع تطورات الإقليم من إمكانية حدوث المزيد من التقويض في دورها، ما يقزّم فكرة التأقلم نفسها، لأنها سوف تصبح مطالبة بمسايرة القوى التي تقبض على دفة الأمور، وهي بالمناسبة ليست بالضرورة أن تكون ذات فائض عسكري أو لديها مخزون سكاني كبير أو حتى موقع مميز، فالدور الذي ينادي بصاحبه تغيرت مقوماته وأخذت معالمه تتبدل، فقد رأينا دولة مثل قطر تملك قناة فضائية كيف تمكنت من التأثير في بعض القضايا.

إذا امتلكت القاهرة مشروعا ورؤية ومنهجا وبرنامجا عمليا ومحددا في القضايا الإقليمية العديدة التي تحيط بها، من السهولة أن تسترد عافيتها ومحوريتها في التأثير على ملفات باتت نتائجها تقترب من تقزيم مصالحها الإستراتيجية، وربما تجبرها على تبني تصورات واقعية قد توفر لها مكاسب أو تحد من خسائرها.

لكن لن تمكنها من الحفاظ دوما عليهما، لأن الحركة التي تسير بها التطورات في بعض القضايا تمضي بوتيرة سريعة ومفاجئة، والرهان على البعد عن الاشتباك أو التكيف غير مضمون العواقب، فالجهات التي تتحكم في مفاتيح بعض القضايا قادرة على تحويل مساراتها باتجاهات تربك القوى التي تتعامل معها بأدوات نمطية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى