رأي

مصائر ثلاثي سوبتشاك إلى الكرملين

كتب طوني فرنسيس في “الاندبندنت عربية”:

قبل أن تشاهده صحيفة روسية يتمشى بأحد شوارع إسطنبول في بداية رحلته إلى الغرب، كان الكاردينال أناتولي تشوبايتس العقل الاقتصادي لروسيا بوتين وصاحب نظرية الخصخصة القاسية في تسعينيات القرن الماضي التي بررها بقوله “كان علينا الاختيار بين شيوعية العصابات ورأسمالية قطاع الطرق”، وهو اختار الأخيرة التي ستنتج ما عرف بـ”الاوليغارشيا الروسية التي جاءت ببوتين رئيساً.

قبل نحو عام استقال تشوبايتس وقيل إن استقالته من موقعه كأحد أبرز الخبراء الاقتصاديين المحيطين بالكرملين، جاءت نتيجة احتجاجه على “العملية الروسية الخاصة” في اوكرانيا وبعدها غادر غرباً وهو الذي وصف نفسه يوماً بـ”الليبرالي الإمبريالي” الذي ترك بصمته على الاقتصاد الروسي منذ عام 1992 وحتى لحظة مغادرته.

حتى الآن، ليس في قصة “الكاردينال” الروسي، وهذا لقبه في الأوساط القيادية، ما يفاجئ، فكثيرون من رجال الأعمال غادروا روسيا، ومئات آلاف المطلوبين إلى التعبئة العامة تركوها إلى بلدان مجاورة، لكن قصة هذا الشخص المقرب جداً من بوتين تتمتع بإثارة وتشويق مختلفين وتكشف عن جوانب من قصة ثلاثي لينينغراد (سان بطرسبورغ الآن) الذين وصلوا بالتتابع إلى الكرملين بدعم من زعيم المدينة أناتولي سوبتشاك الشخصية التي ستفتقدها روسيا مبكراً، قبل أن تفترق مصائرهم وطرقهم في المصالح والسياسة.

الثلاثي يضم بوتين وتشوبايتس وديمتري ميدفيديف، وهم جميعاً بدأوا حياتهم السياسية في ظل ورعاية سوبتشاك رئيس بلدية سان بطرسبورغ منذ عام 1991، منها انتقل تشوبايتس إلى الكرملين ليستقدم إليه بوتين عام 1997 الذي بدوره سيأتي بميدفيديف الذي عمل معه تحت إدارة سوبتشاك.

يروي فالنتين يوماشيف الرئيس السابق لديوان الكرملين أن تشوبايتس الآتي من بطانة سوبتشاك هو من رشّح بوتين لدخول الكرملين عام 1997، بعدما انتقل هو إلى العمل الحكومي، وقال إنه شرح له بأن بوتين “رجل طيب وقوي كان يعمل معه في سان بطرسبورغ. عمل مع سوبتشاك بإخلاص وتولى معظم المهمات اليومية، وكان يعمل لدى جهاز الاستخبارات الـ’ـكي جي بي‘”.

سيأتي بوتين إلى الكرملين، ثم يلحق به ميدفيديف، فيدير له حملته الرئاسية عام 2000، ويموت المعلم سوبتشاك في العام نفسه قبل أن يشهد الصعود الصاروخي لتلامذته الوافدين من ساحل البلطيق.

يستمر بوتين زعيماً مطلقاً منذ تلك اللحظة، تناوب مع زميله ميدفيديف على الرئاسة والحكومة فيما كان ثالثهما تشوبايتس ينصرف إلى الشأن الاقتصادي والعلاقات مع الغرب التي كان من أبرز رموزها طوال ثلاثة عقود، ساعياً إلى تطويرها ضمن مهمته الأخيرة المكلف بها عام 2020 مبعوثاً رئاسياً لـ”تحقيق أهداف التنمية المستدامة”.

يلجأ تشوبايتس “الغربي” إلى دولة غربية لم يعلن عنها، لينقل في أغسطس (آب) الماضي على وجه السرعة مصاباً بمرض عصبي تحقق الشرطة في أسبابه، فيما ينطلق صديقاه من مجموعة سوبتشاك في حملة متصاعدة ضد الغرب، يخوضها على نحو خاص ميدفيديف متخطياً أحياناً السقف الذي يرسمه صديقه الرئيس.

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية تميز ميدفيديف بنبرته الصاخبة ضد شيء اسمه “الغرب”. كاترين كولونا وزيرة الخارجية الفرنسية ردت عليه في أحد تصريحاتها قائلة “عودنا ميدفيديف للأسف، منذ فترة طويلة على التصريحات المتهورة والفظيعة التي لا تعكس الواقع بأي حال من الأحوال. هذا خطاب تحريضي يمكن الاستغناء عنه بكل سرور”.

لكن ميدفيديف ليس من هذا الرأي. ذهب في أحد بياناته إلى توقع “نهاية العالم”. ورداً على قرار محكمة الجنايات الدولية بتوقيف بوتين هدد بقصف “البوندستاغ” الألماني بالصواريخ، ناصحاً الغربيين “حدّقوا جيداً في السماء”.

بعض إطلالات ميدفيديف تذكّر بوزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف وتسميته مهاجمي العراق في 2003 بـ “العلوج”، كما تذكّر بأحد السياسيين اللبنانيين الموالين لإيران الذي قال يوماً إن المحكمة الدولية في قضية اغتيال رفيق الحريري تساوي حذاءه.

تحوّل ميدفيديف من “تكنوقراطي يعشق التكنولوجيا ودود للغرب إلى صقر حرب مجنون”، قالت “فورين بوليسي” في يونيو (حزيران) الماضي. وتساءلت، هل من لعبة باب دوار تجري قبل عام من الانتخابات الرئاسة الروسية فيتكرر مشهد 2008 حين أخلى بوتين مقعده لميدفيديف قبل أن يعود ثانية وكأنه ائتمنه عليه، أم أن بوتين يحتاج إلى بديل سريع لأسباب أخرى؟

ليس في سيرة بوتين ما يوحي بتخليه عن الرئاسة، هو الذي أجرى تعديلات دستورية تتيح له الاستمرار حتى 2036. وهو لا يختلف عن بديله السابق، وربما اللاحق، في تصوير الغرب عدواً أزلياً تنبغي هزيمته وإزالته. يلتقي في ذلك مع قلة من القيادات والتنظيمات في العالم التي تحمل الغرب مسؤولية المظالم، ومنها خصوصاً القيادة الإيرانية والزعامة الكورية الشمالية، ويختلف مع الغالبية العظمى من سكان العالم ودوله التي لا تنظر إلى الانقسام العالمي بمنظور التباعد والتناقض، إنما بعين التكامل وتحمّل المسؤوليات الوطنية والعامة.

لكن مقتضيات “العملية الخاصة” التي تحولت حرباً عالمية أقفلت طرق التراجع أمام بوتين وحلقته الضيقة. باتت روسيا الإمبراطورية في مواجهة المجموعة الغربية التي “حال تمكنها من كسر روسيا فإنه في تلك الحال فقط قد يقبلون بنا في ما يسمونه عائلة الشعوب المتحضرة”، يقول بوتين في تصريحات قبل أسبوعين، ويشرح ميدفيديف التتمة صراحة، “غالباً ما يسألني الناس عن سبب نشري مثل هذه الرسائل النارية (ضد الأوكرانيين والغرب). جوابي هو أنا أكرههم. إنهم أوغاد ومنحطون يريدون لنا الموت. وما دمت على قيد الحياة سأفعل كل ما في وسعي لمحوهم من على وجه الأرض”.

مات سوبتشاك الشيوعي القديم الليبرالي اللاحق قبل أن يعرف مآلات بعثته الخاصة إلى الكرملين. شتوبايتس كان طليعة البعثة فجاء ببوتين، وبوتين جاء بميدفيديف. الأول سيرحل بعيداً من بوتين وبرضاه بعد أن نظم ما اعتبره خصومه “أكبر عملية نهب في تاريخ روسيا”، وبوتين سيبقى وإلى جانبه ميدفيديف، يخوضان حرباً شعواء ضد سياسة تشاركاها معه عقوداً. ماذا كان سوبتشاك ليقول لو بقي حياً؟ الأرجح أنه ما كان ليتفاجأ، فهو يعرف أن مدرسة واحدة أنجبت قادة روسيا الحاليين، وسيمر زمن طويل قبل أن تستقر البلاد على نمط آخر بأشخاص تحرروا من ماضٍ مشترك وحسابات خاصة، وهو ما يحتاج إليه العالم قدر حاجة روسيا إليه.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى