كتبت هدى رؤوف في صحيفة إندبندنت عربية.
تعيش منطقة الشرق الأوسط التنافس بين ثلاثة مشروعات إقليمية للنفوذ، الإيراني والتركي والإسرائيلي، لكل مشروع منها سماته التي تجعل له مسمى مختلفاً عن الآخر.
قديماً كانت القوة العظمى حينما تتفوق في قدراتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية وتتموضع على قمة النظام الدولي إما تسمى قوة مهيمنة أو قائدة أو مسيطرة، أحياناً كانت تستخدم تلك التسميات بالتبادل، على أنها دلالة واحدة، على رغم اختلافها، فالسعي إلى الهيمنة مغاير للسعى إلى السيطرة أو القيادة، هذا صالح للتطبيق في النظام الدولي والنظام الإقليمي.
وإذا انتقلنا من النظام الدولي إلى النظام الإقليمي نجد أن الأمر ينطبق، أي إن القوة الإقليمية المتفوقة في مواردها وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية والبشرية والتكنولوجية ولديها مشروع إقليمي يدور حول توسيع نفوذها، توصف بأنها قوة مهيمنة أو مسيطرة أو قائدة.
وهنا كيف يمكن وصف سلوك كل من إيران وإسرائيل وتركيا في الشرق الأوسط؟ لكي نتمكن من الإجابة لا بد من معرفة الفرق بين القيادة والإمبريالية أو السيطرة والهيمنة.
القيادة هي “نوع من الهيمنة، لكن الملامح الرئيسة للقيادة في مجال العلاقات الدولية هو غياب الإكراه مع التدفق المتبادل للمنافع وشيوع السلوك التعاوني، لتحقيق منافع عامة لبقية الدول”.
أما الهيمنة فتعني “نظاماً سياسياً (إقليمياً أو عالمياً) يسود به نمط تفكير الدولة المهيمنة من دون اللجوء إلى استخدام العنف”.
أما الإمبريالية فهي “السيطرة السياسية التي تفرضها بعض المجتمعات على السيادة التامة لمجتمعات أخرى”. وتتسم بممارسة القوة من خلال أساليب الإكراه والفرض، لذا تستخدم القوى التي تتبع السياسات الإمبريالية أدوات منها التدخل العسكري أو التهديد باستخدام القوة العسكرية، في حال عدم امتثال الدول التابعة لإرادتها.
وإذا نظرنا إلى سلوك كل من إيران وتركيا وإسرائيل على مدار الأعوام الـ10 الأخيرة، نجد أن أولاً وفقاً لإيران فقد ادعت أنها تسعى إلى الهيمنة، وهو ما جاء على لسان أحد قياديي الحرس الثوري منذ أعوام طويلة بأن إيران موجودة في أربع عواصم عربية، بالطبع تمكنت إيران من مد نفوذها في تلك العواصم التي هي بالأساس دول أزمات، تمكنت من اتباع استراتيجية الهيمنة القائمة على استخدام أدوات قوة مادية مثل الأدوات العسكرية، وأدوات غير مادية مثل الأيديولوجية ونسج العلاقات مع الشيعة ومحاولة تمكينهم، واعتبار أنه العصر الذهبي للتمكين الشيعي.
لكن هل قامت إيران بتحقيق مصالحها الوطنية إلى جانب تقديم منافع للإقليم؟ وللدول التي تدعمها؟ لم يحدث ذلك. النتيجة كانت اقتصار الدعم على الجماعات المسلحة من دون إصلاح الدولة، ودخلت تلك الدول في أزمات ممتدة لعقود، بل إن أهم حلفائها سقط بعد 13 عاماً من الدعم الإيراني وهو نظام بشار الأسد.
أما تركيا فلديها نفس طموح القوة لدى إيران، وحاولت اتباع النهج ذاته عبر استخدام أدوات القوة المادية بالتدخل عسكرياً ودعم الجماعات المسلحة، بل إنها أسهمت في تغيير نظام الأسد عسكرياً بعد دعم الجماعات المسلحة، وسعت إلى تتريك اللغة في المدارس وممارسة النفوذ عبر القوة الناعمة، إلى جانب ذلك تسعى أنقرة إلى التأثير حتى في جارتها إيران عبر إطلاق TRT الفارسية، باعتبارها اللغة الـ12 والمنصة التاسعة للأنشطة الدولية لهذه الشبكة.
ولم تعد إيران هذا الإجراء عادياً إنما سيسعى إلى تحقيق أهداف محددة، ومنها أن تركيا إما ستعزز إجراءات تأسيس هيمنتها من خلال التدخل العسكري في شمال العراق والهجوم العسكري على سوريا، أو إذا فشلت في هذا المجال فإنها سترسل سلعها الثقافية إلى منازل شعوب هذه المنطقة، وبخاصة إيران ودول الخليج والبحر المتوسط. وبمعنى آخر عندما لا يتمكن حزب العدالة والتنمية من تعزيز مشروع النفوذ من خلال مهاجمة الدول الأخرى، فإنه يستخدم قوته الناعمة.
وفي الوقت نفسه، كانت إيران أطلقت خلال الأعوام الماضية شبكات بلغات دول أخرى داخل المنطقة، بما في ذلك شبكة تلفزيونية باللغة الأذرية. وكل من تلك الدول يحاول إرسال رسالته السياسية والتأثير في سياسات الدول المنافسة عبر بث دعايته وسرديته للأحداث.
لكن من يسعى إلى الهيمنة عليه أولاً أن يقوم بتوظيف أدوات القوة المادية وغير المادية أو الناعمة لتحقيق مصالحه، مع تقديم منافع عامة للإقليم الذي يريد أن يهيمن عليه، وما يضمن استمرار نفوذه وتأثيره هو استمرار تدفق تلك المنافع العامة، وإلا لن يجد أي قبول إقليمي أو اعتراف بمكانته ونفوذه.
لكن يبدو أن في الحالتين الإيرانية والتركية كل منهما يسعى عبر مشروعه الإقليمي إلى تحقيق السيطرة وما يسمى الإمبريالية، وليس حتى الهيمنة بتحقيق المنافع العامة لدول المنطقة أو تحقيق التكامل والتعاون الاقتصادي لاستثمار موارد الإقليم، لكن يغلب الطابع القسري والعسكري لسياسات كل منهما.
وفي الحالة الإسرائيلية لم تدع إسرائيل أنها تسعى إلى الهيمنة، فهو مفهوم يتضمن إلى جانب توظيف القوة العسكرية استخدام القوة الناعمة للتأثير وتحقيق مكاسب دون لجوء إلى القوة العسكرية أو التهديد بها، ولا يوجد البعد الأيديولوجي والثقافي الذي يجعلها تحاول التأثير في شعوب المنطقة، لذا فان الاستراتيجية الإسرائيلية في الشرق الأوسط تقتصر فقط على القوة العسكرية سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو خارج حدودها في سوريا ولبنان واليمن وقد يكون العراق قريباً.
إن إسرائيل أصبحت قوة إمبريالية تسعى إلى السيطرة العسكرية وإعادة احتلال أراضي دول أخرى والتأثير في قرارات الدول الأخرى عبر التهديد باستخدام القوة، مثلما تفعل مع إيران. كما يغيب عن إسرائيل القبول الإقليمي لسلوكها وهو ما اتضح في موقف كل من مصر والسعودية الداعي إلى سرعة حل القضية الفلسطينية، وإقامتها كحل لإحلال السلام وإقامة التطبيع مع إسرائيل.
وفى حين قدم لنا النموذج الإيراني للهيمنة مثالاً على أن مجرد سعى الدولة للهيمنة والتأثير عبر كل أدواتها قد لا يتحقق، وهو ما نشهده الآن من أفول وتقويض لنفوذ إيران في كثير من مناطق سيطرتها خوفاً من إسرائيل وتخليها عن حلفائها، فلا يتوقع أن ينجح المشروع التركي وكذلك الإسرائيلي، مما يعنى استمرار المنطقة في حال صراع بفعل التنافس بين المشروعات الثلاثة للنفوذ.