أبرزرأي

مسيرة التعافي اللبنانية أمام تحدياتٍ جديدة

كتب د. ناصر زيدان في صحيفة الخليج.

لا يمكن إنكار الخطوات الإيجابية التي حصلت في لبنان، وسط تراكم المآسي، وفي أجواء مُلبّدة بغبار العدوان الإسرائيلي الذي لم ينته بعد. فقد أصبح للبلاد رئيس جديد للجمهورية، وحكومة واعدة، يترأسها قاضٍ وأستاذ جامعي، ودبلوماسي من خارج نادي الأسماء المُكبَّلة بقيود المُحاصصات. وقد انتعشت المؤسسات العامة العسكرية والمالية بعض الشيء، من جراء التعيينات التي أنهت إدارتها بالوكالة وملأت الفراغات التي كانت قائمة فيها، وعاد مجلس النواب المُنتخب إلى لعب دوره الرقابي والتشريعي بعد مُضي ما يقارب ثلثي ولايته من دون أي حراكٍ وازن.
لكن التحديات أمام مسيرة التعافي ما زالت قائمة، والعدوان الإسرائيلي متفلِّت من قيود تفاهم وقف إطلاق النار الذي أعلن في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وهناك تجاوزات محلية تحاول التحلُّل من التزامات الاتفاق، لا سيما فيما يتعلَّق بتفسير حصر امتلاك السلاح من قبل أجهزة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وفق ما ينص عليه اتفاق الطائف لعام 1989 والقراران الأمميّان رقم 1559 لعام 2004 ورقم 1701 للعام 2006، اللذان أُدرجا في مقدمة التفاهم الذي أشرف عليه الرئيس نبيه بري بتكليف صريح من حزب الله، وأبرمته حكومة تصريف الأعمال السابقة، والتي كان يتمتع فيها الحزب بنفوذٍ وازن.
الوسيط الأمريكي السابق آموس هوكستين بذل جهوداً للوصول إلى الاتفاق، والوسيطة الحالية مورغان أورتاغوس تقول، إنها ستتابع تطبيق مُندرجات التفاهم بكل تفاصيلها، بما في ذلك التأكُّد من استيلاء الجيش اللبناني على كامل أسلحة المقاومة والميليشيات الأخرى. وللوسيطين عاطفة واضحة تجاه إسرائيل، وغالباً ما يُحملان الطرف اللبناني مسؤولية الخروقات، ويتجاهلان عن قصد الاعتداءات الإسرائيلية التي تخرج عن سياق حق الدفاع عن النفس، وتبالغ في استهدافاتها لمناطق ومرافق بعيدة عن الحدود، وإسرائيل تأخذ من الصواريخ الفاشلة التي أطلقت بطريقة بدائية من الجنوب في 22 و28 آذار/مارس ولم تُحدِث أي أثر، ذريعة لاستمكال استهدافها لأشخاص ومراكز في أحياء مدنية مُسالمة، ولا يعطيها القانون الدولي حق استهدافهم مهما كانت المُبررات. وإذا كان صحيح ما تقوله عن المخالفات، فعليها مراجعة لجنة الإشراف على وقف النار. والجيش اللبناني وقوات اليونيفيل الدولية قادران على معالجة أي خروقات.
وهناك تحديات داخلية أخرى تواجه العهد الجديد، فالبلاد لم تخرج بعد من مآسي الانهيار المالي الذي حصل إبان الفترة الرئاسية السابقة، ومعالجة هذه المعضلات تحتاج لجهود مُضنية، كما تحتاج لمعونة خارجية، برغم التفاؤل الذي أضفاه تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، لأن حجم الودائع المحجوزة في المصارف كبير جداً، وهي تعود لصناديق ضامنة ولمؤسسات إنسانية وتعليمية تخدم طبابة وتقاعد المنتسبين إليها ولا تبغي الربح، كما لأفراد لبنانيين وغير لبنانيين، ولشركات تجارية وعقارية لها تأثيرها في الحركة الإنتاجية، والتعافي الاقتصادي لا يمكن أن يحصل من دون وضع تصوّر واضح قابل للتنفيذ في هذا السياق.
أما تحدي إعادة إعمار ما هدمته آلة الحرب الإسرائيلية، وهو ما يحتاج إلى ما يزيد على 14 مليار دولار وفقاً لتقديرات المتابعين، ففي غاية الصعوبة، برغم الاحتضان العربي والدولي الكبير الذي تلقاه الحكومة الجديدة، ذلك أن الأطراف اللبنانية المعنية أكثر من غيرها بعملية إعادة الإعمار، لا تتجاوب مع سياقات الوضع الجديد بما يكفي، وخطابات بعض القادة، ما زالت تُكرِّر بعض العبارات التي استهلكتها الفترة السابقة، وهو ما يعطي حجة للذين لا يريدون للبنان أن يعود إلى طبيعته التي تُنشِد الازدهار والرخاء والتقدُّم. وعدد من المتابعين لما يجري في الأوساط السياسية والإعلامية والدبلوماسية، لا يعتبرون أن التجاوب الذي أبداه حزب الله في الملفات المهمة السابقة كافياً لتسهيل مهمة العهد الجديد، ولا بد من صدور إعلان صريح عنه، يؤكد فيه، ودون أي مواربة، تخليه عن العمل المُسلَّح، وإناطة كامل مهمة الدفاع عن لبنان وأرضه وشعبه على مؤسسات الدولة اللبنانية.
الصعوبات التي ما زالت قائمة، لا تقلِّل بأي حال من أهمية ما حصل، فلبنان انتقل بالفعل من مسارٍ إلى مسارٍ
آخر مختلف، والوضع الجديد يحمل في طياته بوادر واعدة، قد يكون أهمها عودة الانتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية، كما في عودة لبنان إلى حضن الحظيرة العربية، بعد فترة طويلة من التغريد خارج السرب. وهذا الموضوع شكَّل المدماك الأساس في مسيرة إعادة النهوض المنتظرة.
أما العلاقات اللبنانية – السورية التي شهدت إشكاليات كبيرة في الحقبة السابقة، فيبدو أنها تسير في الاتجاه الصحيح، وبرعاية عربية واضحة.
لا يمكن اعتبار الاهتمام العربي والدولي المُتجدِّد بلبنان، كونه يخفي أطماعاً بثروات نفطية وغازية بحرية واعدة، كما يرى البعض، كما لا يمكن تحميل بيروت أثقالاً لا يمكنها استيعابها، خصوصاً في سياق إعادة رسم الخرائط في المنطقة، أو في عملية التطبيع والسلام، على شاكلة معكوسة لما كان عليه الحال في السابق.
فللبنان دور طبيعي يمكن أن يلعبه في الإطار العربي والدولي، يساعد الجميع في إضفاء مسحة استقرار وأمل في المنطقة برمتها، ويشكِّل جسر تواصل بين الجميع، من دون أن يكون جزءاً من محور ضد محورٍ آخر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى