مستقبل المنطقة في مفترق طرق

كتب محمد الجدعي, في “القبس” :
يشهد الشرق الأوسط حالياً تغيرات جيوسياسية كبيرة، وفي قلب هذه التحولات يجد «حزب الله» اللبناني نفسه على حافة الانهيار بعد سنوات من السيطرة على المشهد اللبناني. الحزب الآن ممزق سياسياً وعسكرياً بسبب سلسلة من الضربات والاغتيالات التي لم تكن مجرد عمليات عسكرية، بل شملت قيادييه الأساسيين في الصف الأول، بمن فيهم أمينه العام ومقتل خليفته هاشم صفي الدين.
لقد شكل اغتيال السيد حسن نصرالله، والذي كان يُعد أحد أعمدة النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة، ضربة قوية للحزب. ونتيجة لذلك، تحولت لبنان إلى «بلد نزوح ولجوء»، وفقاً لتصريحات وزير البيئة اللبناني، حين فُرّغ جنوب بيروت من السكان ودُمِّرت المباني وغمر الظلام أرجاء الجنوب. هذا الحدث، إضافة إلى الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية المستمرة، أدى إلى تدهور العلاقات مع إيران ووضع «حزب الله» في موقف غير مسبوق من الضعف والعزلة والوهن. ومع ذلك، قد يكون من المبكر الجزم بانهياره الوشيك؛ إذ يعتمد استمرار هذا الضعف على التطورات الإقليمية والدولية المستقبلية، وقد نشهد تحالفات واستراتيجيات جديدة تعيد تشكيل ميزان القوى، ما بين البقاء والزوال!
تواجه إيران حاليًا وضعًا دفاعيًا لم يسبق له مثيل، حيث تحملت سلسلة من الضربات القاسية في غزة وجنوبي لبنان وسوريا، إضافة إلى اغتيال إسماعيل هنية على أراضيها. هذه الحوادث ليست مجرد ضربات ميدانية عادية، بل هي تحولات جوهرية تمس نفوذ إيران، مما أجبر طهران على إعادة تقييم تحالفاتها. كما أن ردود أفعالها المتواضعة والمحدودة تجاه أحداث وتحديات إقليمية مهمة تُظهر تراجع قدرتها على السيطرة كقوة إقليمية مهيمنة. هذه المستجدات لا تعبر عن ضعف مؤقت فحسب، بل تشير إلى انهيار بنيوي في النظام التحالفي الذي استمر لعقود في المنطقة.
العلاقة بين إيران و«حزب الله» ليست فقط عسكرية، بل كانت تعتمد أيضًا على الترابط العقائدي والمالي. فـ«حزب الله»، الذي كان يومًا ما فخر المشروع الإيراني لتصدير الثورة، أصبح لاحقًا عبئًا على طهران، بسبب الضغوط الاقتصادية على إيران ولبنان.. وعلى الحزب، والتي زادت بفعل العقوبات الدولية والتدهور الاقتصادي الداخلي. بات الحزب يشكل عبئًا ماليًا لا تستطيع طهران تحمله في ظل هذه الظروف. وبالتالي، وجدت إيران نفسها أمام خيارين صعبين: إما الانعزال والانتظار، وإما التحول من دولة ثورية إلى دولة تقليدية، كما تنبأ به هنري كيسنجر «من الثورة إلى الدولة»، أي العودة للنظام العالمي واحترام دول الجوار.
في خضم هذه التحولات، تبرز فرص جديدة لدول الخليج لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، وعدم ترك لبنان وحيدًا في ظل هذه الفوضى السياسية والتصعيدات العسكرية الخطيرة. كما أن لبنان، الذي طالما ابتعد قسرا عن محيطه العربي، أمامه الآن فرصة كبيرة لاستعادة دوره الإقليمي والعودة للحضن الخليجي والعربي بعيدًا عن سيطرة «حزب الله» ومن خلفه إيران. ويرجع سبب ذلك إلى أن التغيير في المنطقة بات حتميًا الآن. فـ«حزب الله»، الذي كان رمزًا وذراعاً للمقاومة الإيرانية، بدأ اليوم يتلاشى. وإيران، التي سعت لتصدير ثورتها، تواجه الآن تحديات وجودية في داخل الكياني الإيراني كما في الخارج الإقليمي، والمنطقة بأكملها تعيد حساباتها، مدركة أن الوضع الراهن لن يستمر طويلاً.
تستدعي هذه اللحظات التاريخية تعاملًا حكيمًا، حيث إن الفرص الكبيرة نادرة، وهذه إحداها. إن المستقبل يحمل في ثناياه تغييرات جذرية، وعلى جميع الأطراف الاستعداد لمشهد إقليمي جديد، أو كما قيل.. شرق أوسط جديد، ولكن بمفهوم مختلف!
قد نرى صعودًا قادمًا وقويًا لتيار الفكر الليبرالي واستبعاداً لحكم المحافظين في مشهد وطهران، وربما في العراق وجنوبه تحديدًا، ليستبدل حينها حكم الثورة.. بحكم الدولة!