رأي

مستقبل السلام والتنمية في اليمن في ظل مصيدة الاضطرابات النفسية

كتب د. محمد الميتمي في صحيفة العرب:

السلام سيبقى هشّا وتحت خطر التهديد بالعودة إلى مربع العنف عندما يكون ثلث المجتمع يعاني من الاضطرابات النفسية الحادة.

صنّف هذا التقرير اليمن في مرتبة متأخرة جدا من حيث مستوى الصحة العقلية. كما يشير التقرير إلى أن 24.4 في المئة من اليمنيين يعانون صعوبات، مع ضغوط الحياة اليمنية. غير أن المؤشرات التي بني عليها التقرير مقياس تدهور أو ازدهار الصحة العقلية في الدول محط الدراسة قد ركز على عوامل جامعة للعينة مثل جائحة كورونا، الاستقرار الأسري، نقص الحب والدفء،ولم يضع قصة الحرب الدائرة في اليمن وأثرها في تدهور الصحة العقلية قيد الفحص والتقييم الميداني والطبي. مما يجعل من الاستناد إلى هذا التقرير في وصف حالة الصحة العقلية في اليمن ناقصا.

فأثر هذه الحرب الشرسة ظاهر للعين المجردة في اليمن، من حيث أعداد القتلى الذين بلغوا أكثر من نصف مليون قتيل، ومثلهم وأكثر من الجرحى، والمشردين والمهجرين من بيوتهم واللاجئين في الداخل والخارج الذين يفوق عددهم ستة ملايين شخص،ونسبة الأطفال الذين أصبحوا خارج المدرسة يمثلون نصف من هم في سن المدرسة، والموظفين العموميين الذين لا يستلمون رواتبهم لأكثر من 7 سنوات الذين يزيد عددهم عن مليوني موظف، والعاطلين عن العمل، والمتسولين الذي يملئون شوارع المدن وهي كلها ترمز إلى مستوى وشدة ونطاق الضغوط النفسية التي ترزح تحت ثقلها غالبية اليمنيين.

“لقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية لشريحة الأطفال النازحين في المدارس الحكومية في صنعاء مع بداية الحرب ارتفاع درجة المعاناة لهؤلاء الأطفال، ممثلا في انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بنسبة مرتفعة، بلغت 79 في المئة، مثل تكرار ذكريات الصدمة، واضطرابات الإعياء، والإجهاد الانفعالي، وضعف القدرة على التعبير عن مشاعر الحزن والفرح، وكذلك ضعف القدرة على التركيز والتحصيل الدراسي، واضطرابات النوم والأحلام المزعجة وتجنب الأماكن والأشياء المرتبطة بظروف الصدمة” (FR24).

لقد أتقن تجار الحروب نقش وجوه اليمنيين ونفوسهم: أطفالهم وكبارهم، نساءهم ورجالهم، شبابهم وكهولهم بألوان البؤس والإملاق، الاكتئاب والقنوط. فانصرف نحو 3 ملايين من أصل سبعة ملايين في سن المدرسة من الأطفال عن التعليم، وأٌجبِر آخرون على الالتحاق بجبهات القتال بما يجعل منهم ألغاما للموت في وجه الحياة، وقنابل موقوتة في وجه السلام والسلم الاجتماعي.

وفقد الكبار وظائفهم ومصادر دخلهم ليغرقوا في أوحال الفقر والجوع وغدوا متسولين في شوارع المدن الكئيبة والطرقات الموحشة. فقدت النساء بعولهن وإخوانهن وأبنائهن الذين قتلوا بأشكال مختلفة أو تشردوا فصاروا بلا عوائل أو ظهير يحميهن من بطش الرجال المضطربين وجبروت أجهزة الأمن والميليشيات المتوحشة التي صادرت حتى مجرد حقوقهن في التعبير والنحيب على ما خسرنه في هذه الحرب اللعينة.

والشباب التائه والعاجز المحبط المشحون بالغضب والانتقام والمفخخ بالأيديولوجيات والمذاهب المتطرفة ومختلف العصبيات التي تحث على الكراهية ضد كل معاني التعايش،والسلم الاجتماعي، والصداقة، والمحبة. لقد جعلت هذه الحرب بعضا منهم وحوشا شرسة كاسرة تفترس بلا شفقة أو رحمة كل ما تصادفه في طريقها. إن سلوكهم وتصرفاتهم تلك لم تعد تختلف البتة عن سلوك الزواحف التي تلتهم أبناءها وهم أحياء.

وما يزيد الطين بلّة هو الضعف الشديد للمؤسسات الصحية في هذا المجال، بحيث لا يوجد سوي عدد من المراكز الصحية لا تتعدى أصابع اليدين، ونقص الكوادر المتخصصة في المجال النفسي بحيث يوجد واحد فقط لكل 600 ألف نسمة من السكان. هذا فضلا على أن نصف مؤسسات النظام الصحي في اليمن دمرتها هذه الحرب. بما ألقى بظلال كثيفة وكئيبة وقاسية على مستوى الصحة العقلية في اليمن في اتجاه سلبي متراكم ومتفاقم “وهو ما أدخل غالبية اليمنيين في أتون الاكتئاب ودفع آخرين للانتحاري (FR24).

وكانت النساء والأطفال وفئة الشباب أكثر تأثرا نسبيا من غيرهم. كما اشتد الوضع تفاقما واتساعا بصور أكثر مع جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والعواقب الاقتصادية والتمويلية المصاحبة لهم.

والمؤلم حقا أن كثيرا من الخدمات التي تقدمها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري لعشرات الآلاف من المحتاجين في عموم الجمهورية مهددة بالخطر، بسبب نفاد مصادر التمويل التي كانت تقدمها بعض الجهات الدولية المانحة وتراجع اهتمامها بقضايا الصحة النفسية. الحكومة الهولندية ومنظمة الصحة العالمية هي الأمل المتبقي لهؤلاء المحتاجين اللذان ظل التزامهما بدعمهم ثابتا مستقرا واهتمامهما بالصحة العقلية في اليمن متواصلا خلال السنوات العشر الأخيرة.

يقفز حتما إلى الواجهة مع كل تلك المعطيات السؤال التالي: كيف يمكن بناء السلام والتنمية المستدامة وثلث سكان البلاد يقاسون أهوال ومرارة الاضطرابات النفسية الحادة؟ وفي سياق المنهج العلمي والفكري المتسق مع الغايات والأهداف، فإن هذا الإنسان المستهدف بالسلام والتنمية هو فاعل ومفعول، ذات وموضوع، غاية وسيلة. فكيف ننتظر لهذا السلام أن يتحقق وللتنمية أن تنجح وتدوم، فيما غالبية سكان هذا البلد تتفشى فيه ظاهرة الاضطرابات النفسية على هذا النطاق الواسع.

من واقع هذه الصورة المأساوية، الكئيبة والحزينة يقتضي من المجتمع الدولي والإقليمي والمنظمات الدولية وفي مقدمتها المنظمات الإقليمية الغائبة حتى اليوم عن هذا الدور، ومنظمات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، العمل للتدخل العاجل والفعال للتصدي لهذه الدراما اليمنية وتأمين الدعم والمساندة لضحاياها، باعتبار ذلك جزءا من مهام وأولويات مبادئ حقوق الإنسان، وثانيا من أجل العمل على إدماج هذه الشريحة الواسعة من السكان في المجتمع وإعادة تأهيلهم لتكون عنصرا فعالا ونشطا بشكل إيجابي في عملية السلام والتنمية. من غير المتوقع النجاح لأي عملية سلام ومشروعات السلم المجتمعي، ما لم تكن هذه الشريحة الاجتماعية التي يقدر عددها بنحو 10 ملايين شخص ونيف مكونا أساسيا في عملية السلام والسلم الاجتماعي.

سيبقى السلام هشّا وتحت خطر التهديد بالعودة إلى مربع العنف عندما يكون ثلث أعضاء المجتمع دامية نفوسهم وملغومة عقولهم ومشحونة بالانفعالات الشديدة والاضطرابات الحادة إلى درجة العدوانية المميتة في حالات معينة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى