مستقبل اتحاد المغرب العربي
كتب كمال عبد اللطيف, في “العربي الجديد” :
مرّت قبل أيام الذكرى الخامسة والثلاثون لتأسيس اتحاد المغرب العربي (17 فبراير/ شباط 1989)، ولم تجد لها أثراً يُذكر في إعلام أنظمة الدول المغاربية، رغم أن الأمر يتعلّق بمؤسّسة أنشئت من أجل العمل على تعزيز (وتقوية) علاقات التعاون والتضامن بين البلدان التي أنشأتها وصاغت مواثيقها، كما رتّبت نظام حضورها السياسي في دائرة التكامل الإقليمي بين مجموعة من الدول. فكيف تمرّ ذكرى التأسيس من دون سؤال، ومن دون تفكير في مصير الاتحاد ومستقبله؟ نطرح هذا السؤال ونحن نتذكّر أن أهم مزايا الاتحاد زمن التأسيس تجلَّت في تَخَلِّي القادة المؤسّسين عن لغة العواطف الرومانسية، التي شكّلت الملمح البارز في الأدبيات القومية التي سادت الثقافة السياسية العربية، خلال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وحرصهم على استبدالها بلغةٍ أخرى، ترتبط بمشروعٍ في التعاون والتضامن يُمَكِّن بلدانهم من استكمال مشروع في التقدّم والتنمية، يُعَزِّز مكانتهم في عالم الكبار. فكيف تمرّ الذكرى من دون التفكير في واقع الاتحاد، وفي مختلف مشاريع العمل التي رسمت من أجل مغرب عربي جديد؟
اعتدنا منذ سنوات ربط جمود الاتحاد وتصلّبه وعطالة مؤسّساته بالصراع القائم بين كل من الجزائر والمغرب في موضوع الصحراء، بكل ما يحمله هذا الصراع من أبعاد تاريخية وسياسية، وبكل ما يحمله أيضاً، من معطياتٍ ترتبط بتحوُّلات النظام الدولي، وتحوُّلات النظام الإقليمي في أفريقيا وأوروبا… إلا أن كل ما أشرنا إليه لا يُحَوِّل مأزق الاتحاد إلى مأزقٍ غير قابل للحل، حيث تتوالى السنوات ويزداد التصلُّب سُمكاً… نحن نعرف من ميثاق الاتحاد أننا أمام فعلٍ سياسيٍّ تاريخي، وهو مثل كل أفعال التاريخ قابِلٌ للتطوير والتغيير، وقابلٌ، في الآن نفسه، للتجاوُز. المزعج في الأمر أن تتوالى السنوات ويتوالى حضور المؤسسة، من دون تساؤل أو بحث عن مستقبله، أو عن غياب تفعيله، من أجل تفكير جماعي في الأهداف والمهامّ التي رُسمت له.
لم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي
لم يعد ربط مصير الاتحاد بمسألة الوضع في الصحراء المغربية كافياً لفهم مختلف أسباب جموده، فقد تطوَّرت أحوال بلدان المغرب العربي خلال العقود الأربعة الماضية، وخَلَّفت جملة من النتائج التي ساهمت في عزل المؤسّسة عن مجموعة من الأحداث، التي كان يفترض أن يستعيد الاتحاد عمله عن طريقها، ويحرِص على تفعيل مؤسّساته بالصورة التي تمنحه الحضور والفعل المنتظريْن منه. والإشارة هنا إلى الأحداث في كل من تونس وليبيا والمغرب والجزائر، وتواصلت من دون أي تفكير في آليات العمل التضامني التي تنصّ عليها قوانين الاتحاد.
نجحت دول الاتحاد مجتمعة في التخلّي عن رسالته، وعزله عن مختلف التحوّلات والتحدّيات التي تواجهها بلدانه في علاقتها بالتحدّيات المطروحة داخل كلٍّ منها، وفي علاقتها بالمشرق العربي عموماً وبالمؤسّسة العربية الإقليمية الأخرى، مجلس التعاون الخليجي، وبجامعة الدول العربية. ولم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي. كما لم تنجح في مواجهة التحدّيات التي تحول بينها وبين تحقيق ما تتطلّع إليه شعوبها من تنمية وتقدُّم.
يبدو أن الاتحاد لم يعُد وارداً ضمن أجندة أعضائه، تَعْبُرُ ذكراه في دورة الزمان فلا يتذكّره أحد منهم، تمرّ أقطار الاتحاد بأزماتٍ بعضُها حادّ ومزمن، فلا يَرِد للاتحاد ذكر… والإشارة هنا إلى الوضع في ليبيا، فمنذ ما يزيد عن عقد لم تَتمكَّن القِوَى المتصارعة داخل المجتمع الليبي من الوصول إلى بَرِّ الأمان… فتحولت إلى فضاءٍ لتنافس القِوى الدولية والإقليمية، داخل المجتمع الليبي في بناء قواعد المجتمع الجديد، الذي رفعت بعض شعاراته في بدايات الحراك السياسي الذي فَجَّر الوضع السياسي في بلدان عربية كثيرة سنة 2011. فلماذا لم يشكّل مأزق الثورة في ليبيا، وتدخُّل القِوَى الدولية مناسبةً لعودة الاتحاد؟ ولماذا لم يتمكّن أعضاء الاتحاد، منذ ما يزيد عن عشر سنوات، من المساهمة في البحث عن كيفيات استعادة الأمن في ليبيا؟
لم يعد ربط مصير اتحاد المغرب العربي بمسألة الوضع في الصحراء المغربية كافياً لفهم مختلف أسباب جموده
تصادف ذكرى هذه السنة كثيراً من مظاهر الابتعاد عن روح الاتحاد، وما حصل، أخيراً، من ردود فعل زمن ذكرى التأسيس يساهم في مزيد من الابتعاد عن روح الاتحاد، فقد ترتّب عن التقارب المغربي الموريتاني الحاصل بمناسبة المبادرة الأطلسية، المتمثلة في المشروع الاقتصادي التجاري الذي يجمع دول غرب أفريقيا المُطِلّة على واجهة المحيط الأطلسي، وتساهم فيه دول أوروبية وأميركية ودول الخليج. ترتَّب عن هذه المبادرة رَدُّ فعلٍ جزائري برز في الاجتماع الثلاثي الذي حصل في الجزائر، بين كل من تونس وليبيا والجزائر يوم 2 مارس/ آذار الحالي، بمناسبة مُنتدى الدول المصدّرة للغاز. وقد تقرّر، في الاجتماع الثلاثي المذكور، عقد لقاء مغاربي ثلاثي كل ثلاثة أشهر بعد شهر رمضان، من أجل تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحدّيات الاقتصادية والأمنية بلغة البيان الصادر بعد اللقاء. فهل يتعلّق الأمر بخيار يتم فيه التخلّي عن الاتحاد؟
وضمن السياق نفسه، نشير، أيضاً، إلى حدثٍ ثانٍ يساهم بدوره في توسيع شقّة الخلاف بين المغرب والجزائر. فقد تَمَّ يوم 6 مارس/ آذار الجاري فتح مكتب تمثيلية ما سُمّيت جمهورية الريف، بمشاركة أعضاء مما يُسمَّى المجلس الوطني الريفي، الأمر الذي يفتح الباب أمام معارك أخرى تتجاوز مختلف صور الاضطراب التي تسيطر على أحوال مختلف بلدان المغرب الكبير، ويعيدُنا إلى مستويات أخرى من الصراع… فكيف نفكّر، في ضوء المشار إليه، في استعادة سفينة الاتحاد ومشروعه الكبير في بناء المغرب العربي؟
عندما تُضاف إلى ما سبق ردود فعل أخرى تغذّيها مليشيات التواصل الاجتماعي في الفضاءات الرقمية، وهي في أغلبها مُفبركة ومُرتّبة بهدف مزيد من توسيع درجات التباعد القائمة اليوم بين دول الاتحاد، نُدرك أن الموضوع بدأ يتخذ اليوم أبعاداً أخرى، تبرز بعض ملامحها في تزايد الإنفاق على السلاح، كما تبرُز في استخدام ما يساهم في مزيد من تفكيك المجتمعات المغاربية، وذلك بالعودة إلى النعرات القبلية والعِرقِية، على حساب وحدة الوطن، ومشروع الإقليم الواحد بأهدافه وطموحاته المشتركة… فماذا ننتظر من أنظمةٍ تمارس ضد بعضها سياساتٍ تقوم على ردود فعلٍ تعرف أنها لا تساهم لا في تَحَرُّرِ أوطانها، ولا في التنمية التي تتطلّع إليها شعوبها؟