رأي

مساعي ترامب لإنقاذ الأوروبيين

كتب رامي الشاعر, في RT:

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فجر اليوم الخميس، عن إلغاء لقائه المرتقب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الهنغارية بودابست.

وكانت أنباء وشائعات وتحليلات وتكهنات وأكاذيب قد سبقت ذلك “الإلغاء” تنم عن حراك بل صراع في ظل الخلاف القائم بين وجهتي نظر الروسية والأمريكية (الواقعة تحت تأثير حزب الحرب الأوروبي) بشأن التسوية الأوكرانية، بين موقف روسيا الساعي إلى التسوية الشاملة لجذور الأزمة وبين موقف أوروبا الساعي لوقف إطلاق نار مؤقت، وهدنة لمزيد من الاستعداد والأسلحة والحشد.

اليوم الخميس أعلن الاتحاد الأوروبي كذلك عن حزمة العقوبات الـ19 ضد روسيا والتي تؤكد على “انتصار حزب الحرب” بأوروبا في مهمته الخبيثة بإلغاء قمة بودابست وعرقلة جهود الحوار، مقابل مزيد من التسليح والتصعيد والتوتر في أوروبا.

وأعتقد أننا اليوم بصدد امتداد لسياسة التضحية بأوكرانيا وأبناء الشعب الأوكراني الشقيق على مذبح المصالح الغربية والأوروبية تحديدا، وحتى آخر جندي أوكراني، مقابل أوهام “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في أرض المعركة”، التي تحولت مع الوقت إلى أوهام “وقف تقدم روسيا أيا كان الثمن”، بالتوازي مع أوهام أن الحزمة الـ19، وربما الـ20 أو الـ50 سوف تطيح باقتصاد روسيا، ذات النغمة المكررة منذ 2022، والتي تسببت سابقا في انهيار اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت عليها أوكرانيا في إسطنبول أبريل 2022، وهو ما أسفر عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا واستمرار العملية العسكرية.

إن الدور الأساسي في تخفيف التوتر الدولي يقع اليوم على عاتق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وروسيا لا زالت تقدّر مساعيه وتتفهم الضغوط التي يرزح تحتها، بينما يفهم، وأكاد أجزم أنه يتفهم من جانبه موقف روسيا من مجمل القضايا الدولية، وتحديدا في الأزمة الأوكرانية.

لقد أصبحت الصورة الآن واضحة وضوح الشمس، فالأزمة الأوكرانية لم تعد تتعلق بالولايات المتحدة قدر ارتباطها بالاتحاد الأوروبي وحزب الحرب الذي تتزعمه بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا وتسير في ركبها أوكرانيا ومن ورائهم جميعا دول البلطيق.

وبرغم تصريحات الرئيس ترامب عقب لقائه الرئيس بوتين في ألاسكا، وبعد أن ترسخت لديه قناعة بأحقية روسيا في أراضيها التاريخية وحماية الناطقين بالروسية من بطش السلطات الأوكرانية الانقلابية الفاشية، والتي انتهكت حقوق هؤلاء المواطنين، الأوكرانيين بالأساس، لكن ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم روسي، وهو ما دفعهم لإعلان الاستقلال من جانب واحد في 2014، ثم انفصالهم عن تلك الحكومة التي يقول رئيسها أن عليهم “الرحيل عن أرضهم” التي ولد عليها أجدادهم حتى سابع جد، وعودتهم للوطن الأم روسيا، بعد استفتاء شرعي وفقا للقوانين الدولية المعتمدة، برغم تلك التصريحات إلا أن ترامب عاد وانقلب على آرائه بعد ضغوط أوروبية وأوكرانية وأمريكية داخلية هائلة.

وبعد المكالمة الأخيرة من الرئيس بوتين، عاد ترامب ليستقبل زيلينسكي ويخبره بعدم تسليمه صواريخ “توماهوك”، وهو ما ظل حديث الساعة للأسابيع الماضية، وكان العلكة التي تمضغها أوروبا وأوكرانيا وتحاول بها تهديد روسيا في سابقة تدعو للضحك والسخرية أكثر من أي شيء آخر، فـ “توماهوك” وبشهادة الخبراء العسكريين والاستراتيجيين، ومع افتراض تسليمها لأوكرانيا، لن تغير شيئا على أرض المعركة، كما لم تفعل من قبلها “هيمارس” و”ليوبارد” و”ستورم شادو” و”أبرامز” و”باتريوت” وغيرها من الأسلحة. كما أن تسليم صواريخ “توماهوك”، القادرة على حمل رؤوس نووية، يضع الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع روسيا، بل ويضطر روسيا إلى اللجوء إلى عقيدتها النووية، وهو أمر لا تتحمله هذه الإدارة الأمريكية ولا أي إدارة أمريكية سابقة أو لاحقة.

أقول إن ترامب قال لزيلينسكي أنه لن تكون هناك “توماهوك”، وأبلغه بضرورة تقبل الواقع، والتخلي عن الأراضي التي يقطنها أغلبية روسية، والتي أعلنتها روسيا (وفقا لدستورها) أراض روسية، مقابل منح روسيا لأوكرانيا أراض في مناطق أخرى (وهو تنازل روسي سخي من أجل التسوية)، سعيا لحوار شامل بشأن الأمن غير القابل للتجزئة في أوروبا ومع حلف “الناتو”، والالتفات إلى جوهر الأزمة الأوكرانية، والأزمة الروسية التي بدأها “الناتو” بتمدده شرقا منذ ثلاثة عقود.

أود الإشارة هنا إلى أن ترامب، فيما أظن وأعتقد، يستوعب أن إيقاف مسار هذا القطار مستحيل، ويقدّر استجابة روسيا لبعض مطالبه، ويتفهّم التوازنات الدولية، وكذلك يثمن العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس بوتين، والتي تبث الثقة في المحادثات سواء الهاتفية أو من خلال المبعوثين الشخصيين أو القنوات الدبلوماسية. إلا أن لقاء زيلينسكي مع القادة الأوروبيين، بعد عودته من واشنطن، واطلاعهم على موقف واشنطن الجديد، أصابهم جميعا بالصدمة، واعتبروا طلبات الرئيس ترامب بمثابة استسلام لأوروبا، وخضوع لمطالب روسيا بالتسوية الشاملة وليس “وقف إطلاق النار وهدنة التسليح واستئناف الحرب بعد حين”، لا سيما أن نتائج العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا قد أصبحت واضحة للقاصي والداني، بينما تحرر القوات المسلحة الروسية البلدة تلو الأخرى والمدينة تلو الأخرى، وأصبحت على مشارف بوكروفسك، ويفصلها عن تحقيق أهداف العملية العسكرية وانهيار الجبهة الأوكرانية ربما أشهر معدودات.

لم تنضج أوروبا بعد للسلام، وترغب في الحرب، وتحاول قدر استطاعتها استمالة المصابين بداء “الروسوفوبيا” أو (رهاب الروس) داخل الإدارة الأمريكية إلى جانبهم لإشعال مزيد الحروب وهو ما سيسفر بالقطع عن سقوط مزيد من الضحايا من أبناء أوكرانيا. يأتي ذلك في الوقت الذي ينسحق الرئيس المنتهية شرعيته (منذ مايو 2024) زيلينسكي أمام إرادة أوروبا الساعية للحرب، والتي تعرقل أي جهود للسلام.

أعتقد أن الرئيس ترامب لا شك سيحتاج بعض الوقت لمقاومة الضغوط الهائلة التي يقع تحتها، كما ستحتاج أوروبا هي الأخرى لبعض الوقت كي تفهم أن ثمن الحرب قد أصبح أغلى من ثمن السلام، حينها ستأتي أوروبا صاغرة إلى طاولة المفاوضات، وستستجيب للمقترح الرئاسي الأمريكي الروسي لعقد لقاء ينهي الحرب ويعبد طريقا للسلام العادل مع ضمانات عدم استئناف الحرب من جميع الأطراف، وهو ما تسعى إليه روسيا منذ مقترح الضمانات الأمنية الذي اقترحته في ديسمبر 2021.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى