شؤون دولية

مدريد وفيلنيوس: حلف الناتو بين قمّتين.

ليس هناك ما هو أكثر فائدة لتقييم قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي استمرّت يومين، واختتمت في 12 يوليو/ تموز الجاري في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، من مقارنتها بنتائج قمّة العام الماضي. قمة مدريد 2022، التي عُقدت في أوج الأزمة الأوكرانية، وكانت محل اهتمام الجميع حتى وُصفت بأنها الأهم والأكثر تاريخية من بين قمم الحلف. الرهانات والآمال نفسها التي عقدت على اجتماعات فيلنيوس.

من الناحية العامة، يُلاحظ التشابه في العناوين، حيث عاد الحلف ليلعب دوره التاريخي المتمثل في مناهضة “الخطر الروسي”، فبعد تمخض الاجتماع السابق عن “وثيقة استراتيجية” كانت تنظر إلى روسيا بوصفها تهديدا، بدا وكأن الزمن قد عاد بالجميع إلى عهد الحرب الباردة. من ناحية أخرى، عادت التساؤلات بشأن مصير الدول طالبة الانضمام لتطرح مرّة أخرى بقوة، فبعد الموافقة على انضمام فنلندا، تنتظر السويد، وقبلها أوكرانيا التي تعتبر الانضمام إلى الحلف طوق نجاة لها، دورها.

لا تزال الولايات المتحدة، الراعي الأهم للحلف، غير متحمّسة إزاء مقترحات التوسيع حينما يتعلق الأمر بأوكرانيا، التي تحظى بالمساعدة والتعاطف، والتي تخوض حرباً شرسة في مواجهة الروس. بشكلٍ عام، لا تبدو إدارة الرئيس بايدن مختلفة كثيراً عن إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، التي كانت ترى أن الولايات المتحدة تُنفق مالا كثيرا لحماية الحلفاء من دون عائد.

الأميركيون هم القوة الأهم في الحلف، لوجستيا، ومن ناحية تحمّل النفقات. ولهذا السبب، يضع تحفّظهم عراقيل تجعل الحديث عن أي عملية انضمام صعباً، فحتى لو كانت غالبية الدول تدعم ضمّ أوكرانيا، يظل الصوت الأميركي راجحاً. ليست الولايات المتحدة الوحيدة التي ترفض انضمام أوكرانيا، بما يمثّله هذا الانضمام من التزامات. الواضح أن دولاً كثيرة تتحجّج بالموقف الأميركي، في حين لا تبدو في حقيقتها مستعدّةً لتحمّل التبعات.

كان ربط ضم السويد بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أو لدول حرية الحركة الأوروبية، “اتفاقية شنغن”، هو أعلى مراتب المساومة

هدف هذا النوع من القمم بالأساس هو اتخاذ مواقف متضامنة وموحّدة، لكن الخلاف يبدو ظاهراً إزاء القضية الأهم، وهي الحرب الأوكرانية، ليس فقط بسبب الانضمام المتعثّر، الذي حمل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي على التعليق حوله بضيقٍ لا يخفى، ولكن أيضاً بسبب التسليح، فعلى ما يبدو هناك تقييدٌ كبير على نوع الأسلحة والعتاد الممكن توريدُه إلى أوكرانيا. ليست هذه المناقشات عن حدود الدعم العسكري محل تنازع فقط بين الدول المختلفة، ولكن ذلك يحدُث حتى داخل الدولة الواحدة، فما أن أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نيته دعم أوكرانيا بصواريخ متطوّرة وبعيدة المدى، حتى أبدت السياسية اليمينية مارين لوبان اعتراضها على ذلك، متحدّثة عن خطورة هذه الخطوة وتأثيرها على بلادها. والأمر مشابه في النقاشات الداخلية الشعبية والسياسية الألمانية. وفي بال الأوروبيين أن حشر روسيا في زاويةٍ قد يهدد بالانزلاق نحو حرب نووية، لا سيما أن موسكو ألمحت إلى ذلك منذ بداية المعركة، معلنة أنها لن تخسر، وستدافع عن رؤيتها بأي وسيلة ممكنة، ولذلك، فإن قدراً من الاتّزان يظل مطلوباً في كل الأحوال.

مثل ما كانت الصين حاضرة في استراتيجية الحلف العام الماضي، فإنها ظلت حاضرة في نقاشات “الخطّة الدفاعية” هذا العام، لتأثيرها الكبير على المجموعة الأطلسية، وهو ما يجعلنا نفهم سر استمالة دول مثل كوريا الشمالية واليابان وتقريبهما من الحلف. يُقرأ ذلك كله في ظل ما يشاع عن رغبة الولايات المتحدة في نقل اهتماماتها الاستراتيجية إلى منطقة الشرق الآسيوي.

في ما يتعلق بالسويد، باتت حظوظها في الالتحاق بالمجموعة الأطلسية أعلى، بعد تبشير الأمين العام للحلف ينس ستولتنبيرغ بأنه أخذ موافقة تركيا المبدئية على انضمامها. حدث هذا بعد عام من الرفض التركي المُحكم، ومن ربط تلك الموافقة بإجراءاتٍ وصلت إلى حدّ المطالبة بإلغاء التأشيرة مع دول الاتحاد الأوروبي، وتوفير دعم مالي ومحاربة إرهاب المجموعات المسلحة المعارضة.

التصريحات التركية الحادّة التي جاءت قبيل القمّة، وبالتزامن مع حوادث حرق المصحف الشريف الاستفزازية أمام البعثات الدبلوماسية التركية، وبعلم السلطات السويدية ومباركتها، كانت شديدة الانتقاد للمنطق السويدي، الذي كان يصرّ على اعتبار أن الأمر لا يعدو أن يكون حرّية تعبير، على الرغم مما يشتمل عليه من إساءة لمشاعر الملايين من المسلمين.

في بال الأوروبيين أن حشر روسيا في زاويةٍ قد يهدّد بالانزلاق نحو حرب نووية، لا سيما أن موسكو كانت قد ألمحت إلى ذلك

كان ربط ضم السويد بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أو لدول حرية الحركة الأوروبية، “اتفاقية شنغن”، هو أعلى مراتب المساومة، فجميعنا نعلم أن انضمام الأتراك إلى النادي الأوروبي في هذا التوقيت يتساوى في مخاطره الاستراتيجية، وذلك وفق نظرة سياسيين أوروبيين كثيرين، مع الخشية من الغزو الروسي.

كان منطق المساومة يقول إن الدولة التركية تستطيع أن تعيش من دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، سواء على مستوى تبادل إعفاءات التأشيرة، أو على أي مستوى آخر من التنسيق التجاري أو الاقتصادي، لكن السويد، التي تشعر بالضعف والتهديد، سوف يكون صعباً عليها أن تنتظر وحيدة مدة طويلة خارج مظلة الحلف. وبهذا، هي التي تحتاج أكثر للاتفاق والتنازل.

لوهلة، نظر المتابعون للموقف التركي أنه متعنّت وخارج عن الإجماع، لكن الحقيقة أن تعلية السقف كان المقصود بها الوصول إلى منطقة وسطى، تحقق الممكن من المصالح التركية، سواء على صعيد وقف الدعم للمجموعات الإرهابية والخارجة عن القانون أو على صعيد تحقيق فوائد أخرى، كتحريك صفقة طائرات إف 16 الأميركية، التي ظل الأميركيون يؤخرون تسليمها.

لم تستلم تركيا شيئاً بعد. ولذلك، تبقى كل هذه التفاهمات تحت الإجراء والتقييم. أما إذا جرى التلكؤ في تقديم المطلوبات التركية، فالمتوقع أن يحدث تلكؤ آخر على الجانب التركي، من قبيل اعتراض البرلمان على الموافقة على انضمام السويد. هكذا تصبح المعادلة خسارةً للجميع، مع خسارة سويدية أكبر، أو ربحا لجميع الأطراف.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى