مخيّم عين الحلوة آخر فرسان الممانعة.
كتبت دلال البزري في العربي الجديد.
المكان: مخيّم عين الحلوة الفلسطيني في مدينة صيدا الجنوبية. هو من أصل 12 مخيماً للاجئين الفلسطينيين في لبنان. ومثلها، يعود تاريخه إلى النكبة، أي منذ ثلاثة أرباع القرن. ويسكنه 55 ألف لاجئ فلسطيني. منذ شهرين، يشهد اشتباكات عنيفة بين مسلحيه، إثر اغتيالات طاولت قياديين من كلا الجهتين المتقاتلتين، وتحوّلت مع الوقت إلى مطالب بتسليم مرتكبيها.
من هي تلك الجهات؟ تنظيم “فتح” القديم، الذي يرأسه محمود عبّاس، والذي تحوّل إلى “سلطة فلسطينية”، مارست ما منحته لها إسرائيل من “حقوق” في القمع والفساد. وهو تنظيم ذو تيارات مختلفة، لا يمكن إحصاؤها بدقة. ولكنه في حالة تشظٍّ حقيقية، يحتاج إلى خبرة الثعالب العجوز لتديرها كلها. بوجهها “الشباب المسلم”. وهذا الشباب جيل آخر، تكوين آخر. وإذا كانت “فتح” تعاني من التشظّي، وتبقى على ما هي، إطاراً حاكماً للمخيم، فإن “الشباب المسلم” يعاني من التناسل، ومعدوم الهيكل والأُطر: فهذا “الشباب” يتشكّل من مجموعاتٍ صغيرة، غزيرة وخصبة، تتولَّد منها انشقاقات لمجموعات أصغر، من متمرّدين على المنشقين، من منشقّين عن المنشقّين، وهكذا…
الاشتباكات لم تتوقف. دخلت في مرحلة معهودة بين وقف إطلاق النار وهدنة، واجتماعات تنسيق ومشاورات، وأخرى للاستنكار… ثم عودة إلى النار بكثافة. ومن جهنمية هذه الاشتباكات أنها هجّرت أهل المخيّم غير المسلحين، نساء وأطفالاً خصوصاً، فانتشروا في أحياء صيدا. وكانت مهزلة أضافت إلى تشرّدهم إذلالاً وتجريحاً، فقد بادرت جمعية الكشاف العربي والصليب الأحمر اللبناني إلى إنشاء مخيّمات لهم، في المدينة الرياضية على المدخل الشمالي من صيدا. لكن هذه المبادرة أحدثت “ضجة أهلية”، وتصريحات استنكارية، نيابية وبلدية، فأزالت “القوى الأمنية” الخيم بعد يوم من نصبها، وعاد الهاربون إلى السكن في شوارع صيدا.
ولطالما احتضنت صيدا المخيم، في الأيام السالفة. لكن أهلها لا يعرفون ماذا يفكّرون الآن. حياتهم، نشاطهم، لقمة عيشهم. كله مهدَّدٌ بيوميات هذه الاشتباكات. والمدينة تحوم حولها أشباح الاهتراء والانطفاء. والصيداويون، بين عواطفهم الفلسطينية التاريخية واندماج المخيم بهم، وبين خشيتهم من حزب الله وابتلاعهم البروباغندا التي يشيعها حول المخيم، وفي مقدمتها خليط فوضوي من النثرات والمعلومات المغلوطة والصمت حول ما هو أهم… وبين السيطرة الجغرافية على مدينتهم: حارة صيدا، ذات الثقل الشيعي – الجنوبي، في شرقها الجنوبي. “مجمّع الزهراء”، في الجهة نفسها، حيث يقيم حزب الله فعالياته، على الرغم من كل الاعتراضات الصيداوية عليه. بين التلاعب بخوفهم وعقولهم، وحصارهم بالسدود المذهبية، الصيداويون عاجزون، ينظرون إلى موت مدينتهم، ولا يملكون غير تلك التعويذة الوطنية اللبنانية: “فلننتظر التطوّرات الإقليمية والدولية، وسوف نرى”…
تشير المعلومات الآتية في صيدا، بلا لبس، إلى أن حزب الله يدعم “الشباب المسلم” يمدّه بما يحتاج إليه للاستمرار بالاشتباك مع “فتح”
ما الذي يديم هذه الاشتباكات؟ توازن قوى عسكري، لا يميل لصالح أحد الطرفين. حسناً. ولكن كيف له أن يدوم من دون تجديد الذخيرة وإطعام “المجاهدين” وإغاثتهم؟ المخيم مُحاط من شرقه بثكنة عسكرية، تابعة للجيش اللبناني. ولكن هذا الأخير لا يتدخّل بسلاحه. حتى لو تطلب منه ذلك السكوت عن الدعم الآتي من الخارج. وذلك ربما تحسّباً لترشّح قائده إلى رئاسة الجمهورية. وهو “نجاح” لن يتحقّق من دون موافقة حزب الله. وتشير كل المعلومات الآتية في صيدا، بلا لبس، إلى أن حزب الله يدعم “الشباب المسلم”؛ يمدّه بما يحتاج إليه للاستمرار بالاشتباك مع “فتح”، عن طريق تلك الهيئة التي أنشأها منذ سنوات، المسمّاة “سرايا المقاومة”، وهي مجموعات غير شيعية، تابعة لحزب الله، تقوم في مناطقها بما تمليه عليها إرادة الحزب، وبصفته نابعاً من “الأهالي”. أعلن الأمين العام لحزب، حسن نصر الله، عن تشكيلها عام 1997، وفسّرها وقتها: “لكل لبناني، مهما كانت هويته السياسية أو الطائفية، أو إمكاناته المادية والعلمية، القدرة على المشاركة في شرف دعم المقاومة وصناعة فجر التحرير”. وقد يكون أنشأ، أو بصدد إنشاء “سرايا مقاومة” فلسطينية، على غرار اللبنانية.
ومع ذلك، لا يتكلم الحزب عن هذا الدعم. بل يسخِّف أخبار تدخّله العسكري المستَتِر هذا. وإعلامه ساكت تماماً. يلعن “فتح”، وبضع كلمات عن “الشباب المسلم”. بالضبط، كما فعل مع سورية، عندما أنكر وسخّف الأخبار القائلة إن رجاله يذهبون إليها لدعم بشّار الأسد عسكرياً. وبعد ذلك، بعدما نجح مع بشّار الأسد في سحق السوريين، صار يتغنّى بانتصاراته على “التكفيريين”. وقتها، انطلقت ألسِنة الممانعة، تردِّد خلف حسن نصر الله: حزب الله سينتصر على التكفيريين، أو انتصر، ماضٍ في المعركة ضد التكفيريين، في حربٍ مفتوحة مع التكفيريين، معركة وجود مع التكفيريين، مواصلة قتال التكفيريين.
بعد كلّ هذه العبارات التي رسخت في الأذهان، وصارت شعاراً ممانعاً تقليدياً، كيف يمكن أن “يكوِّع” الحزب، ويعلن جهاراً أنه يمدّ “الشباب المسلم التكفيري” بما يحتاج ليستمرّ بالاشتباك ضد “فتح”، غير التكفيرية، وبلا هوادة؟ لكن عاجلاً أم آجلاً، ستنتهي المعارك بنصر لـ”الشباب المسلم”، لأن ذخيرة “فتح” ستنفد. وساعتها فقط يعلن الحزب أنه جاهد معهم بالمدَد. وذلك اقتداءً بـ”النموذج الإيراني”، الذي تلقّف عناصر تنظيم القاعدة، بعد هزيمتهم، وجنّدهم لأعماله الاستخباراتية المختلفة.
يديم الاشتباكات في “عين الحلوة” توازن قوى عسكري، لا يميل لصالح أحد الطرفين. لكن كيف له أن يدوم من دون تجديد الذخيرة وإطعام “المجاهدين” وإغاثتهم؟
وقبل إتمام هذا “الإنجاز” يجدر التوقف عند تحليل نقدي لكاتب إسلامي، أحمد الأيوبي، قريب من “الجماعة الإسلامية” في لبنان، أي “الإخوان المسلمين” اللبنانيين. ينقل مقاله المناخ الذي يعيشه الإسلام السياسي السنّي في لبنان، في ظل اشتباكات مخيم عين الحلوة. نورد أهم مفاصله، لأهميتها، وعذراً سلفاً على التطويل:
ولطالما سمعنا من قال ذات يوم عن المسلحين في الضنيّة إنّهم “إخواننا” وكذلك عن مسلّحي تنظيم “فتح الإسلام” الإرهابي (مخيم نهر البارد الفلسطيني)، بل اغترّ البعض فاعتبرهم “قوّة لأهل السنة”، وهذا وهم كبير سقط في انقلاب “حزب الله” في 7 أيار 2008 عندما تفرّج هؤلاء على “الحزب” من دون أن يحرِّكوا ساكناً… وانزلق الكثيرون إلى صفوف تنظيمَي “القاعدة” و”داعش” لدواعٍ مختلفة، وتأخّر كثيراً موقفُ الحركات الإسلامية من هذين التنظيمين، واقتصرت المواقف على بعض البيانات وبعض الفتاوى من دون أيّ جهد لإنزالها إلى الشارع ومواجهة موجات انجذاب الشباب إلى “القاعدة” و”داعش” وفروعهما وانشقاقاتهما المختلفة. اليوم يصف بعض الإعلام المسلّحين المتطرفين في مخيّم عين الحلوة بأنّهم “مجموعات إسلامية”، في مصطلح يساوي بينهم وبين الحركات الأخرى مثل “حماس” و”الجماعة الإسلامية”. وغيرهما، وهذا مصطلحٌ مضلِّل، لأنّ هؤلاء المسلّحين يحملون فكراً متطرّفاً جعلهم يمارسون شتى أنواع العنف والإرهاب، ولا تصِحُّ ولا تجوز نسبة تجمعهم وممارساتهم إلى الإسلام، لذلك فإنّ الأمانة الدينية والموضوعية تقتضي بوصفهم كما هم على حقيقتهم بلا لفٍّ ولا دوران (…) ليسوا إسلاميين بالمعنى الاصطلاحي السائد المعرِّف عن الحركات الإسلامية الدائرة في فلك الإخوان المسلمين… وليسوا “إخواننا” بالمعنى السياسي العام لأنّ أغلبهم ينتمون إلى منظومة فكرية عقائدية تكفِّر الجميع، بمن فيهم من يمنحهم اليوم غطاءه المباشر أو غير المباشر، لهذا، فإنّ موقف حركة حماس و”الجهاد” و”عصبة الأنصار” و”الحركة الإسلامية المجاهدة” وغيرها من الفصائل ينبغي أن يكون واضحاً وحاسماً ولا يقبل المسايرة. وتتحمّل هذه القوى، وكلّ من يتغنّى بالانتماء إلى العمل الإسلامي مسؤولية إنهاء حالة الصمت السلبي أو المراهنة على إنهاك “فتح”، لأنّها تمثل الشرعية، وإذا ما حصل أن كُسِرت فإنّ هذه الحركات لا تملك الشرعية الكافية للتمثيل الفلسطيني في لبنان كما أنّها لن تستطيع الحلول محلّها وسيتضخّم هؤلاء المتطرّفون ليأكلوهم جميعاً، وهذا هو السيناريو الأشدّ سوءاً. مطلوب من “هيئة علماء المسلمين في لبنان” و”هيئة علماء فلسطين” و”الجماعة الإسلامية” وكل من يعنيه الأمر في الساحة الإسلامية أن يعلنوا البراءة من أفعال هذه المجموعات المنفلتة التي لا تخدم سوى من يريد استهداف الوجود السنّي في لبنان، وأن يعودوا إلى لغة الشرعية الفلسطينية فكلّ انقلاب عليها سينعكس على السنّة في لبنان عاجلاً أو آجلاً.