مخاطر إقليمية جديدة أمام مصر
كتب محمد أبوالفضل في صحيفة العرب.
حرب غزة حافلة بالدروس التي تؤكد أن معايير تطبيق القانون وتجريم الانتهاكات والمجازر مسألة نسبية، في هذا الخضم يبدو مقياس مصر للقيم والأخلاق وأهمية القانون الدولي والسلام في غير محله.
تواجه الدولة المصرية تحديات إقليمية مركبة، فما إن تتأقلم مع أزمة أو تضع حلولا للتعامل معها حتى تباغتها أخرى، وباتت محاطة بحزام يؤثر على الأمن القومي بصور مختلفة، فقبل أن تنتهي حرب غزة ويُجهض تماما مخطط إسرائيل لتوطين فلسطينيين في سيناء، ظهرت تهديدات أمنية في جنوب البحر الأحمر يمكن أن تؤثر على حركة الملاحة في قناة السويس التي تمثل عائداتها موردا ماليا مهما لمصر.
ارتاحت القاهرة لعدم استهداف جماعة الحوثي في اليمن السفن المتجهة إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس، واعتقدت أن التأثيرات محدودة أو منصبة على السفن المتجهة إلى إسرائيل عبر خليج العقبة، وثمة إمكانية لتقويض التداعيات قريبا.
قبل أن تنتهي مصر من خططها الخاصة للتعامل مع ما يقوم به الحوثيون عند مضيق باب المندب، فاجأتها الولايات المتحدة بتحالف بحري يضم العديد من القوى الدولية والإقليمية بحجة تأمين الملاحة في البحر الأحمر.
لم تبد القاهرة ترحيبا بهذا التوجه ورأت أن أسطولها قادر على حماية حدودها البحرية وتأمين الملاحة في قناة السويس، لكن كانت هناك مفاجأة أخرى من إثيوبيا، حيث وقعت مذكرة تفاهم مع “جمهورية أرض الصومال” تقيم بموجبها قاعدة عسكرية في ميناء بربرة، ما يؤثر على توازنات مصر في التعاطي مع إثيوبيا وما بينهما من أزمة مستعصية بشأن سد النهضة الذي وصل إلى طريق تفاوضي شبه مسدود مؤخرا.
يتحدث مصريون بسطاء عن استهداف متعمد لبلدهم جراء كثافة التهديدات الوجودية، بدءا من ليبيا غربا وحتى الحرب على غزة في الشمال الشرقي، مرورا بالسودان ومياه النيل جنوبا، بينما يقول أهل الخبرة إن هذه التطورات لها دوافعها المحلية المنطقية، وإن كانت لها ارتدادات خارجية تؤثر على المصالح المصرية.
يصعب الأخذ بنظرية المؤامرة في كل هذه الحلقات وحصر التدهور في فكرة النيل من مصر، لأن الجغرافيا لعبت دورا مهما في أن تكون هناك انعكاسات على القاهرة، فالعالم مليء بالأزمات وتوجد دول تعايشت مع الصراعات سنين طويلة ولم يشر قادتها أو شعبها إلى مؤامرة عليهم، وقام رعاتها بتفجير متعمد لبعض الأزمات.
تحدد رؤية الدولة، أي دولة، في التعامل مع الأزمات درجة التأثير والتأثر، فالتحديات التي تحيط بمصر، غربا وشرقا، وجنوبا، وربما شمالا إذا تصاعدت حدة الخلافات في شرق البحر المتوسط، لم ترسل عواصفها إلى مصر، لأن هناك استعدادات قللت من أن تصل روافدها القاتمة إلى الداخل، وعدم الانخراط عسكريا أبعد شبح التورط في أي منها، اقتناعا بأن الاشتباك الخشن سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة.
تظل هذه المسألة حاكمة في الرؤية المصرية عند تعاملها مع أزمات ليبيا والسودان وغزة وسد النهضة وتغليب الأدوات السياسية والمخابراتية، لأن هناك يقينا بأن الدخول قد يكون سهلا وربما مفروشا بالورود، لكن الخروج لن يكون كذلك، وامتلاك مصر مقومات عسكرية كبيرة لا يعني المبادرة باستخدامها في الأزمات الإقليمية.
يتفق البعض مع هذا المنهج باعتبار أنه يحافظ على صلابة الدولة المصرية، والتي لجأت قيادتها الحالية إلى سد الثغرات الداخلية كي لا تصبح هناك بيئة مواتية لاختراقات خارجية ناعمة أو خشنة، بينما يرى آخرون أن سياسة انتظار انفجار الأزمات في منطقة حيوية للأمن القومي ثم التعامل معها بما يتواءم مع كل منها لم تعد مفيدة أو مجدية، فكل أزمة قريبة أو بعيدة من القاهرة هي تحد دقيق لمصالحها، فلم يكن من المتوقع أن تؤثر حرب روسيا وأوكرانيا على الاقتصاد المصري.
لذلك فالقوة الداخلية بمعناها الشامل، العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، لن تكفي لتوفير الراحة التامة لدولة بحجم ومكانة مصر، ظهرت التحديات المحيطة بها في توقيتات متقاربة بحكم أن هناك حراكا إقليميا واسعا، وتحولات دولية متباينة، وتغيرات في أجندات قوى تملك طموحات كبيرة وترى أن هذه اللحظة مناسبة لتدشين أهدافها المؤجلة، كل ذلك ومصر على قناعة بأن العزوف عن الاشتباك مع الأزمات والاكتفاء بالتعامل مع ما يمكن أن تفرزه من نتائج يكفي للحفاظ على مصالحها.
يصبح هذا التوجه مفيدا إذا كانت هناك أزمة واحدة ساخنة، لكن الكثافة ظاهرة في الأزمات الإقليمية وارتفاع مستوى سخونتها وجميعها لها ارتباط مباشر بالأمن القومي المصري، ما يؤكد أن سياسة الانتظار غير مجدية، ومن الضروري وجود مبادرات خاصة، فالعالم يدعم القوي ولا يتعاطف مع من يريدون تطبيق القانون الدولي.
لعل مذكرة التفاهم التي وقعتها حكومة أديس أبابا مع ما يسمى بجمهورية أرض الصومال تعزز هذه الفكرة، فالأخيرة إقليم لم يحصل على اعتراف رسمي ووقع اتفاقا مع دولة مستقلة، مع ذلك هناك من أيدوا الخطوة واعتبروها شجاعة من إثيوبيا، وربما حقا أصيلا لها، لأنها دولة حبيسة وتسعى للحصول على نافذة على البحر الأحمر.
كما أن حرب غزة حافلة بالدروس والعبر التي تؤكد أن معايير تطبيق القانون والعدالة وتجريم الانتهاكات والمجازر مسألة نسبية، في هذا الخضم يبدو مقياس مصر للقيم والأخلاق وأهمية القانون الدولي والسلام في غير محله، لأن التمسك بها لا يعني تجنب فخاخها، فقد ناشدت القاهرة، وغيرها، وشجبت وأدانت التجاوزات التي حدثت في بؤر الأزمات القريبة بها ولم يتغير شيء فيها.
تحتاج مصر خلال المرحلة المقبلة إلى فلسفة جديدة في توجهاتها الخارجية، لتتمكن من تقويض التحديات الإقليمية وعدم تأثيرها على مصالحها بشكل قوي، فعلى مدار نحو عشر سنوات تراكمت الأزمات بصورة غير مسبوقة، ولم تفلح القاهرة في إخماد أي منها واكتفت بمعالجة نتوءات وهوامش وبقيت الأوضاع على ما هي عليه.
تأتي المشكلة هنا في الجرأة التي تتحلى بها بعض الدول التي تيقنت من أن مصر تبدو بعيدة عن المشهد الإقليمي، وتأثيرها ينحصر في الحدود التي تمثل تهديدا مباشرا عليها، ولذلك فكل التهديدات الراهنة هي غير مباشرة، لكن نتائجها العميقة في حكم المباشرة، وهي سياسة تتبناها بعض القوى لتحييد القاهرة في الوقت الحالي.
إذا كانت مصر تمكنت حتى الآن من قطع الطريق على سيناريو التوطين في سيناء، فإن واضعي السياسة والخطط في إسرائيل فكروا في تجاوزه من خلال السعي نحو ترحيل الفلسطينيين إلى جهات أخرى في أفريقيا وآسيا، وهو ما يُبقي الأثر السلبي على القضية الفلسطينية التي تسعى مصر لعدم تصفيتها.
تدار الأزمات الإقليمية بطرق مبتكرة لتحقق أهداف من يديرونها بأدوات ملتوية، وإذا لم تنتبه القاهرة إلى ذلك مبكرا لن تجد الوقت الذي يمكنها من ملاحقة ما يترتب عليها من تداعيات قد تنتقل من البعد غير المباشر إلى المباشر في المدى المنظور.