رأي

مجلس التعاون.. في شيء من الاسترخاء

كتب عبدالله بشارة في صحيفة القبس.

من أهم ما تحقق في إنجازات مجلس التعاون بسنواته الأولى، تمثل في التقارب الكبير في مواقف الدول الأعضاء، في القضايا العربية والإقليمية والدولية، كانت العلاقات مع إيران والحرب العراقية – الإيرانية أبرز القضايا وأغلظها وأخطرها، كان الإدراك بحساسية الوضع الإقليمي متماسكاً في صلابته وفي عزمه على تطويق مخاطر الحرب لكي لا تمس جغرافية الدول الأعضاء، وفوق ذلك كان القرار الإستراتيجي الجامع هو العمل وباستمرار على وقف إطلاق النار، مستخدماً جميع الوسائل التي توفرها المنظمات العالمية، سواء في نيويورك أو في جنيف، لتأمين دعمها العلني لوقف الحرب، وفي كل مسار سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، والأهم ما تم الاتفاق عليه بين دول المجلس، في ذهاب وزير خارجية الدولة التي تستضيف القمة الخليجية إلى بغداد لنقل جوهر مداولات القمة حول الحرب وتبعاتها واحتمالاتها، وفوق ذلك ما تقوم به الدول الأعضاء في تواصلها ثنائياً مع بغداد وطهران، بحثاً عن مخرج يقبله الطرفان لوقفها.

كان مجلس الأمن الدولي قد اجتمع في بداية الحرب وسط مقاطعة إيرانية وموقف عراقي متردد، خصوصاً مع قرار مجلس الأمن الذي دعا الطرفين إلى وقف الحرب وسحب القوات إلى حدودها الإقليمية، ولم يكن الجانب العراقي سعيداً بالدعوة للانسحاب، متصوراً أن انهيار الجيش الإيراني غير مستبعد، ولا سيما إذا حافظت القوات العراقية على تواجدها على الأراضي الإيرانية.

كان ذلك في السنة الأولى من الحرب التي استمرت ثماني سنوات، تغيرت فيها المواقف، ولا سيما مواقف العراق التي ظهر فيها صدام حسين في مشاهد منتشياً بقرب انهيار النظام الإيراني وجيشه، لكن العناد الفارسي المدون في التاريخ أثبت استمراره رغم التحديات ولم يتلاشَ، وبقي العناد الإيراني مستمراً رغم الظروف الصعبة التي كانت تعيشها إيران، وسط مقاطعة عالمية وحصار مفروض عليها، ونظام سياسي – ديني لا علاقة له بقواعد الدبلوماسية العالمية، ولا بمبادئ القانون الدولي.

المهم أن وحدة الموقف الخليجي خلال السنوات الثماني كانت متماسكة وعززت وضع العراق، ولا سيما مع عبور قوات إيران إلى منطقة الفاو، انسجاماً مع سياسة الحفاظ على التراب العراقي ومؤازرة الإستراتيجية العراقية لتنظيف المنطقة من الوجود العسكري الإيراني.

صعّدت الدول الأعضاء التلاحم مع المواقف العراقية، ولا سيما المملكة العربية السعودية والكويت، سعياً لإجهاض التوسعات الإيرانية، وتواصل الانسجام في توحيد الاجتهادات وتلاقي المساعي للاطمئنان على وضع الخليج محمياً من تأثيرات الحرب العراقية – الإيرانية التي انتهت في أغسطس 1988، حافظ فيها العراق على ترابه.

كما استمرت فاعلية الدبلوماسية الخليجية الجماعية مع الغزو العراقي لدولة الكويت، مع تصاعد شحن الإمكانات لمواجهة الغزو وتأمين تحرير الكويت، وسط وحدة التلاقي الخليجي لأهداف التحرير.

ساهمت وحدة المواقف تجاه الغزو وامتثال المشاركة العسكرية الخليجية للخطة التي وضعتها قيادة التحالف في المزيد من متانة الأسس التي يقوم عليها مجلس التعاون، فقد أثبتت الهمة الخليجية الموحدة لتحرير الكويت عمق التزام الدول الأعضاء لمتطلبات العمل الخليجي الأمني الجماعي وتقبل تبعاته مهما كانت أثقالها، وتعززت الثقة في الإرادة الجماعية وفي قدرة المؤسسة العسكرية الخليجية على حشد جماعي للإمكانات التي تملكها الدول الأعضاء وتسخيرها لأهداف المجلس.

ومع تحرير الكويت، واصل مجلس التعاون مسيرته معتمداً على وحدة الإرادة التي تجلت في دوره بتحرير الكويت، مؤمناً بأن هذه الإرادة الصلبة قادرة على إجهاض التعقيدات والمشاكل التي قد تبرز مع اتساع المسؤوليات وإبحار مسيرته التي اتسعت مع دول التحالف العالمي التي شاركت في تحرير الكويت.

كنت – بصفتي أميناً عاماً للمجلس – على قناعة بأن المزايا الإيجابية التي تحصدها الدول الأعضاء من مسيرة المجلس قادرة على تجاوز مشاكل الحدود بينها، وأن الحصاد الذي تجنيه الدول الأعضاء في جميع الجوانب، ولا سيما في الأمن والسيادة، قادر على تصغير القلق الذي قد تفرزه قضايا الحدود.

لم يكن هذا الطرح التفاؤلي مؤثراً في تطويق جرعات هذا القلق الحدودي، فكانت الأصوات تعلو بضرورة تجاوز معضلات الحدود وضرورة التعامل معها.

كنت على اطلاع على خريطة الخلافات، لكن لم أكن أتوقع انفجارها المفاجئ، كان سمو الشيخ حمد بن خليفة ولياً للعهد في دولة قطر في ذلك الوقت، وكان يدعو إلى أولوية حل المعلقات الحدودية بأسرع وقت لكي لا تتعقد وتتكاثر معها الشكوك والانزعاج.

كان موعد القمة السنوية للقيادة الخليجية يقترب، عندما فوجئنا بظهور خلاف حدودي بين المملكة وقطر، وتم تطويقه مع تدخلات أذكر آخرها جاء من المرحوم الرئيس المصري حسني مبارك في لقاء تم في المدينة المنورة، كانت القمة ستُعقد في مدينة أبوظبي، ونحن في الأمانة نستعجل إرسال ملفات القمة إلى الدول الأعضاء، كانت قطر لا تقبل تسلُّم هذه الملفات، ولم تكن لدينا مؤشرات على المقاطعة أو الغياب، كما لم يتوافر اليقين بحضور قطر، والمهم أن المفاجأة السارة تحققت في المدينة المنورة بتواجد الرئيس المصري حسني مبارك.

كنت في مطار أبوظبي بمعية الشيخ زايد في استقبال قادة دول المجلس، جاء الشيخ خليفة بن حمد أمير دولة قطر، وكنت بمعية الشيخ زايد في استقباله، نزل من الطائرة، مبتسماً ومصافحاً الشيخ زايد، وتحركت نحوه للسلام عليه، ففاجأني قائلاً: «أنت تدفع لعقد اجتماع للقادة من دون قطر»، مردداً كلماته التي كانت مفاجئة لي، لأن سمو الشيخ خليفة منحني سلطة غير عادية لا أحلم بها وليست من صلاحيتي، والحمد لله سارت المداولات في المجلس بأفضل حال، وتجلت الحميمية بين القادة، لكن اتضح لي مقام مشاكل الحدود في التأثير في مسيرة المجلس وحساسيتها بين الدول.

كانت حالة تركت مخلفات مزعجة لا توحي بالاطمئنان، وشعرت من تلك الواقعة بأن التلاحم بين الدول الذي كانت قاعدته توحيد الدبلوماسية الخليجية يميل نحو التراخي، فظهرت طلائع التباينات في المواقف، ويمكن تجميلها واعتبارها اجتهادات في المساعي، لكنها في الحقيقة اختلافات في تقييم حجم القضايا.

كان التباين في الدبلوماسية الخليجية بارزاً حول التحليلات عن إيران، وسعيها للنفوذ مع التحريض والجفاف في المواقف وفي المفردات، وعندي يقين بأن هذا التباين في المواقف خاصة تجاه قضايا الإقليم كان عاملاً مهماً في خطة المقاطعة التي تعرضت لها قطر، ورغم أن تلك الصفحة الجافة في مسيرة المجلس قد طويت، فإن خريطة التباعد في المواقف حول القضايا الإقليمية والقضايا العالمية، مثل حرب أوكرانيا والتعامل مع إسرائيل وأوضاع السودان وليبيا، واضحة جداً، واتسع وضوحها مع مرور الوقت.

لا أعتقد بأن المناخ الخليجي الدبلوماسي الموجود الآن قادر على استعادة الديناميكية الوحدوية التي انطلقت مع ولادة مجلس التعاون، ولن تتقارب كثيراً في مساراتها، بل ستبقى، حيث أفرزت المقاطعة بعض الوقائع التي من الصعب التخلي عنها، كما شيدت تحالفات استثمر بعض الأعضاء الكثير من المال والجهد والتناغم الدبلوماسي فيها لتضمن فعاليتها عند الشدة.

سيواصل مجلس التعاون مسيرته الحالية حاملاً معاناته من الإفرازات التي تولدت من واقع المقاطعة، كما أفرزت تلك الأزمة ترتيبات مع دول إقليمية أخرى تتقاطع مع مسيرة مجلس التعاون، والمهم الحفاظ على حيوية المجلس وحمايته من المزيد من المفاجآت المؤذية للمسيرة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى