رأي

مجزرة بوفالو والخوف من الملوّنين

كتب وائل السواح في “العربي الجديد”:

نهض الفتى بايتون جيندرون (18 سنة)، من فراشه، فغسل وجهه وتناول إفطارا، وتدرّع بدرع واقٍ من الرصاص، واعتمر خوذةً ثبّت في مقدّمتها كاميرا لبثٍّ مباشر، وتقلّد بندقية حربية، ثم سافر لمسافةٍ تزيد عن 320 كيلومترا، ليدخل إلى متجرٍ كبير، ويطلق النار على أشخاصٍ لا يعرفهم، في مدينة غير مدينته وبين ناس غير ناسه، فيقتل منهم عشرة أشخاص، جلّهم من السود، ويجرح ثلاثة آخرين. لم يكن يعرف أيا من ضحاياه. لم يكن بينهم عداوة، ولا مصالح، ولا خلافات مالية. جلّ ما في الأمر أنهم كانوا من لونٍ آخر: كانوا سودا.
لم تأتِ المجزرة بعد مشاجرة أو إثر خلاف، بل جاء الفتى مجهّزا بكل المعدّات اللازمة ومستعدّا للقتل، فقد أمضى سنوات ثلاثا وهو يتخيّل كيف سيقوم بمجزرته، ويقضي على أعداء العرق الأبيض. وشوهد قبل أشهر في المدينة نفسها، بوفالو، في ولاية نيويورك، وفي المتجر عينه، متجر توبس، الذي يرتاده السود عموما. وفي اليوم السابق للمجزرة، زار المتجر، فيما يبدو أنه المعاينة الأخيرة قبل التنفيذ. ولو أنه لم يعتقل في مكان الجريمة ووقتها، لكان قد نفّذ مجزرتين أخريين على الأقل، كما أخبر المحقّقين.
ما الذي يدفع شخصا ما ليحملَ كلّ هذا الحقد وتلك الكراهية لأشخاصٍ لا يعرفهم، وليس بينهم عداوة شخصية؟.. يشعر بعض الأميركيين البيض بالقلق من المهاجرين غير البيض الذين يزدادون عددا بسبب الهجرة ومعدّل الولادة. وفقًا لاستطلاع وطني أجراه مركز أسوشييتد برس – نورك لبحوث الشؤون العامة، أُجري في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، يعتقد ما يقرب من ثلث الأميركيين أن هناك محاولة متعمّدة جارية لاستبدال الأشخاص البيض المولودين في الولايات المتحدة بالمهاجرين الملوّنين. ووجد الاستطلاع أن 29% من الأميركيين البالغين يخشون من أن يخسر الأميركيون المولودون في الولايات المتحدة نفوذهم الاقتصادي والسياسي والثقافي، مع زيادة عدد المهاجرين.

طوّر بعض القوميين البيض نظرية جديدة تستند إلى المؤامرة، هي “نظرية الاستبدال”

تزيد هذه الأرقام بين الجمهوريين المحافظين عن المعتدلين والليبراليين بطبيعة الحال. والحقّ أن ثلثي الجمهوريين يعتقدون أن نمو عدد المهاجرين إلى الولايات المتحدة “يعني أن أميركا في خطر فقدان ثقافتها وهويتها”. من هذا القلق، طوّر بعض القوميين البيض نظرية جديدة تستند إلى المؤامرة، هي “نظرية الاستبدال”، أو التي تشير إلى فكرة أن ثقافة العرق الأبيض وسيادته السياسية يجري استبدالهما عمدا، من خلال إغراق البلد بالمهاجرين والأقليات. وربطت الجماعات المناهضة للهجرة والمتفوقون البيض نظرية المؤامرة بحجّتهم التي لا أساس لها من الصحة، أن السياسات المؤيدة للهجرة صمّمتها النخب لتدمير العرق الأبيض أو تقويضه. وتقوم هذه الحجّة على الافتراض الخاطئ أن المهاجرين غير البيض سيصوّتون جميعا بطريقة معينة، وسيقلّلون بشكل جماعي من تأثير العرق الأبيض.
اكتسب هذا المفهوم زخما كبيرا عندما صاغ المفكر الفرنسي القومي رينو كامو عبارة “الاستبدال العظيم” في كتاب صدر عام 2011، مدّعيًا أن المسلمين في فرنسا يدمّرون الحضارة والثقافة الفرنسية بسبب ارتفاع معدلات المواليد لديهم. وتدور فكرة الكتاب حول نظرية مؤامرة، تفيد بأن الهوية الغربية والبيض تحت الحصار؛ بسبب موجات الهجرة الهائلة من البلدان غير الأوروبية وغير البيضاء، وأن الهجرة الجماعية مع النمو السكاني للمهاجرين ستؤدّي إلى تغير ديموغرافي في الغرب، يُستبدل بموجبه مهاجرون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالأفراد الأوروبيين، وغيرها من البلاد غير الأوروبية.

منذ اليوم الأول لوصول أوباما إلى البيت الأبيض، رصّ المحافظون صفوفهم لإفشال سياسته

ويركّز كامو أكثر على المسلمين، لمغايرتهم ليس في العرق فقط، ولكن في الدين أيضا. وهو يرى المسلمين “محاربين غزاة هدفهم الوحيد هو التدمير واستبدال الإسلام بالشعب الفرنسي وحضارته”. وعلى الرغم من الحكم على كامو بغرامة بلغت أربعة آلاف يورو، فإن فكرته لم تتوقّف، ففي عام 2014، الذي صدر فيه الحكم ضد كامو ذُكر مصطلح “الاستبدال العظيم” في مواقع التواصل الاجتماعي 120 ألف مرة، بحسب مجلة تايم الأميركية، التي أفادت بأن انتشار المصطلح تضاعف مرّات كثيرة في السنوات التي تلت. ولكنّ للفكرة جذورا أسبق على ذلك في أوروبا. ففي مطلع القرن العشرين، كتب رائد القومية الفرنسية موريس باريز أن الشعب اليهودي سيستولي على وطنـ”نا” و”يدمره”. وانتشرت هذه النظرية كالنار في الهشيم في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. ولا يزال اليهود، ومن ثمّ المسلمون، مصدر خوفٍ متعاظم لدى الأوروبي العادي عموما. وفي الولايات المتحدة، تأخر ذلك كثيرا. وبينما كانت العنصرية قاتلةً أحيانا تجاه الأميركيين من أصل أفريقي، فقد كان الأميركيون أكثر تسامحا عموما مع المهاجرين من قوميات أخرى وديانات أخرى. على أن فوز الرئيس باراك أوباما في عام 2009، أول رئيس أميركي أسود، قد هزّ بعنف أركان القومية البيضاء ودعاة تفوّق العرق الأبيض. فلأول مرّة يأتي ابن مهاجر فقير من كينيا، ليس ليصبح نائبا في الكونغرس، أو محافظا لبلدة صغيرة، ولكن ليصبح رئيسا للولايات المتحدة. كانت صدمة وصول رجلٍ من أصل أفريقي إلى البيت الأبيض موجعة للجميع: للعنصريين والفاشيين الجدد والمحافظين الذين يناضلون من أجل إبقاء الأمور على حالها، وقد جال في خاطر الجميع أنه إن جاء اليوم رجل أسود إلى الحكم، فقد يأتي غدا رجل مفرط في الليبرالية أو اشتراكي أو حتى امرأة!
ومنذ اليوم الأول لوصول أوباما إلى البيت الأبيض، رصّ المحافظون صفوفهم لإفشال سياسته، وضعوا كلّ عصا ممكنة وغير ممكنة في عجلة السياسة والاقتصاد والرعاية الاجتماعية. وجاء المرشّح الرئاسي دونالد ترامب ليؤكّد أن باراك أوباما لم يولد في أميركا. وبالتالي، لم يكن رئيسا شرعيا، وهو ما ساعد في تحفيز أكثر الأجزاء تطرّفاً في الحزب الجمهوري وقاعدته. واكتسبت كذبة ترامب زخما كافيا للسماح لترامب بالفوز بترشيح الحزب الجمهوري، ومن ثمّ بالرئاسة بنجاح. وفي عهد ترامب، وجد القوميون المتعصّبون والمتفوقون البيض في الرئيس سياسيا حليفا، بل وملهِما، في سعيهم إلى إعادة أميركا إلى ما كانت عليه قبل عام 1965 من إصلاحاتٍ عرقية ومجتمعية.

انتشرت في عهد ترامب الاعتداءات على مجتمعات اليهود والمسلمين والمثليين والمتحوّلين جنسيا واللاتينيين والآسيويين

ونمت في عهد الرجل شبه الأمي الأيديولوجية التي تركّز على اعتقاد لا أساس له أن المهاجرين سيهمّشون السكان البيض من خلال السياسات التي وضعتها “النخب” الليبرالية. وألهمت هذه الأيديولوجيا هجمات عنيفة عديدة في السنوات الأخيرة، في الولايات المتّحدة. وفي حين أن السود هم الأكثر استهدافا بمثل هذا العنف، فقد انتشرت في عهد ترامب الاعتداءات على مجتمعات اليهود والمسلمين والمثليين والمتحوّلين جنسيا واللاتينيين والآسيويين. وعلى مدى السنوات السبع الفائتة، وقعت أحداث كثيرة كشفت عن عمق قابلية العنصريين البيض لاستخدام العنف، بدءًا من إطلاق النار على كنيسة إيمانويل إيه إم إي التي خلفت تسعة قتلى من أبناء الرعية السود في تشارلستون، بولاية ساوث كارولينا، في 17 يونيو/ حزيران 2015، مرورا بجرائم الكراهية ضدّ مجموعات أخرى، بما في ذلك المذبحة في 2016 ضدّ مجتمع الميم في أورلاندو بولاية فلوريدا والتي خلفت 49 قتيلاً و53 جريحا، والمذبحة المعادية للسامية في كنيس شجرة الحياة في بيتسبرغ، بنسلفانيا (2018)، والتي تركت وراءها 11 قتيلا وستة جرحى، وإطلاق النار الجماعي في إل باسو في ولاية تكساس (2019)، والذي أسفر عن مقتل 23 شخصا، واستهدف صراحة مجتمع اللاتينكس في المدينة، ثمّ إطلاق النار في منتجع صحي في أتلانتا (2021)، أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، بينهم ستة أشخاص من أصل آسيوي. ولعلّ أكثر المشاهد تعبيرا كان مشهد مئات النازيين الجدد في مدينة شارلوتسفيل (2017)، حين عبروا الشوارع وهم يحملون المشاعل النازية، برؤوس محلوقة وزنود مغطاة بالأوشام، ويهتفون “لن يحل اليهود محلَّنا”!
لم تكن حادثة بوفالو، إذن، منعزلة، بل الخوف السائد بين الأميركيين حاليا أن ذلك العنف سيكون هو النمط السائد في العلاقة بين الأميركيين. ولن يكون تغيير هذا التوجّه المتنامي أو عكسه قريب المنال، لأسباب عدّة، أوّلها القوة العظيمة للوبي السلاح الأميركي، وثانيها أن الدستور يحمي حقّ الناس العاديين باقتناء السلاح، حتى الحربيّ منه. وثالثها هيمنة المحافظين على القضاء، بما فيه المحكمة العليا، ورابعها فرسان الإعلام العنصري في وسائل اليمين المتطرّف من فوكس نيوز ونيوز ماكس وغيرهما. وفي مقدّمة الجميع، يقف بالطبع المذيع الأبيض الوسيم تاكر كارلسون، الذي خصّص 400 حلقة من برنامجه اليومي ليخيف الأميركيين من غزو الغرباء الذين سيقضون عليهم. ولأن معظم الأميركيين يستقون مواقفهم بناء على إعلامهم، فليس قادم الأيام مليئا بالبِشْر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى