رأي

متى تتوقّف الحرب في غزّة؟

كتب أحمد الجندي, في “العربي الجديد” :

لم يكن أحد يتوقّع حينما اندلعت حرب الإبادة في غزّة أن تستمرّ هذه الفترة كلّها، صحيح أن المنطق حينها كان يقول إنّ الانتقام الإسرائيلي ضدّ القطاع وأهله سوف يكون عنيفاً بقدر الإهانة والإذلال اللّذَين لحقا بالدولة الصهيونية وجيشها، واللّذَين لن يُمحيا من الذاكرة العربية، لكن أحداً حينها لم يتوقّع أن تمتدّ عاماً ونصف العام، وعدّاد الضحايا لا يتوقّف، من دون أيّ مؤشّر يوحي بقرب نهايتها. فالحرب إذاً مستمرّة، وليس في وسع أحد تحديد وقت توقفها، بل لا يملك المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم إجابةً شافيةً عن سؤال حول موعد توقّفها، حتى إن تصريحاتهم عن هذا السؤال تبدو أقرب إلى التخمينات والظنون منها إلى الحقيقة.
وقد نقلت، في الأيام القليلة الماضية، أكثر من صحيفة إسرائيلية عن مصادر مقرّبة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، تخطيطه لإنهاء الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، غير أن المصادر نفسها اعتبرت هذا الموعد ليس مقدّساً، وأنه مرتبط بتحقيق الأهداف، التي لو تحقّقت، قد تتوقّف الحرب قبل الموعد المذكور، أو تتأخّر لو استمرّ الفشل الإسرائيلي في إنجاز الأهداف. وكانت القيادة الإسرائيلية حدّدت ثلاثة أهداف رئيسة للحرب: القضاء على القدرات العسكرية لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وإعادة الأسرى، واستعادة قوة الردع على المستوى الإقليمي.

تقصير مدّة الحرب أحد المبادئ الأساسية المرتبطة بالدفاع عن “الدولة”، فالحرب الطويلة تعارض مصلحة إسرائيل

ويكتشف المتأمّل في هذه الأهداف أن إسرائيل لم تحقق أيّاً منها على نحوٍ كامل، فهي ما زالت عاجزةً عن استعادة أسراها، ومن عاد منهم كان نتيجة اتفاق سياسي، وليس بسبب الضغط العسكري، كما أنها، وإن أضرّت بالمقاومة، لم تتمكّن من القضاء على قدراتها؛ حتى إن عسكريين إسرائيليين، وفق إشارة صحيفة سيروجيم التابعة للصهيونية الدينية، اعتبروا عمليات المقاومة أخيراً دليلاً على أنها تُبقي قوّاتها في حالة تربّص، ولا تتعجّل خوض القتال، وتراقب الجنود الإسرائيليين وتتحرّك وفق رؤية، وليس مصادفةً، وتختار اللحظة المناسبة التي تشنّ فيها الهجوم. الأكثر من ذلك أن محلّلين إسرائيليين، مثلما كتب الصحافي في “معاريف”، إفرايم جانور، بدأوا يتخوّفون من تكرار سيناريو فيتنام في قطاع غزّة، وأن يتحوّل كلّ تمركز للقوات الإسرائيلية هدفاً جديداً للمقاومة، ما يعني أن إسرائيل قد تدرك، في النهاية، أنها تخوض حرباً خاسرةً، لأن ما تعوّل عليه من استسلام المقاومة لن يحدث، علاوة على أن سقوط كلّ جندي إسرائيلي في القتال سيؤدّي إلى مزيد من التوتّر والتمزّق في المجتمع الإسرائيلي، ويضعف قدرته على الصمود.
من أجل أن تحقق هدفها في استعادة القدرة على الردع، لم تدّخر إسرائيل جهداً في ارتكاب كلّ أنواع جرائم الحرب في غزّة، فلم تكتفِ أن تُظهِر لدول المنطقة تفوّقها العسكري، بل حرصت أن تترك في قطاع غزّة ذكرى ملموسةً ومشاهدةً تتذكّرها الشعوب العربية لتدرك حجم التدمير الذي يمكن أن يتسبّب به جيشها، على المستويَين؛ العسكري والاقتصادي، وفي البنية التحتية، وصولاً إلى تهديد الأنظمة نفسها، وهي في ذلك تعتمد على الدعم غير المحدود للولايات المتحدة، ودول غربية كثيرة، بل وبعض الأنظمة العربية، التي فاقت كراهيتُها للمقاومة حرصَها على أمنها القومي. لكن إسرائيل، ورغم ذلك كلّه، لم تتمكّن من استعادة كاملة لمفهوم الردع الذي وضعه ديفيد بن غوريون عند تأسيس الكيان، كما أنها لن تتمكّن أن تمحو من ذاكرة الشعوب حجم الإذلال الذي تعرّض له جيشها في بداية هذه الحرب، علاوة على أن الشعوب لن تنسى أيضاً عمليات المقاومة، المحاصرة في غزّة، والمقطوعة عنها خطوط الإمداد، وكذا الحوثيين في اليمن، حتى اللحظة ضدّ إسرائيل.

الحرب أصبحت كالشوكة في حلق إسرائيل، فلا هي قادرة على تَقيّئها (ولا حتى ابتلاعها)، كما أنها لا تقدر على تحرير الأسرى

والواضح أن الإسرائيليين حين يطرحون سؤالهم عن موعد نهاية الحرب لا يفعلون ذلك من باب المناكفة السياسية، بل لحرص كثيرين منهم على الأمن القومي الإسرائيلي، إذ إن تقصير مدّة الحرب أحد المبادئ الأساسية المرتبطة بالدفاع عن الدولة، فالحرب الطويلة تتعارض مع مصلحة إسرائيل، وتحدّ من قدراتها العملياتية والاقتصادية، وقد تؤثّر في الشرعية الدولية عموماً. الأخطر من ذلك، أن طول الحرب يتسبّب في سقوط مزيد من قتلى الجيش الصهيوني ويؤخّر إطلاق سراح الأسرى، ويخلق استياءً شعبياً تعكسه مظاهرات أسبوعية تطالب بإبرام صفقة تبادل، ومحاسبة القيادة السياسية والعسكرية، ومشاكل اجتماعية بسبب زيادة الأعباء على الجنود (النظاميين والاحتياط) وعائلاتهم، في الوقت الذي تعفي فيه الحكومة الحريديم من الخدمة العسكرية لمصالحها الضيقة، وهو ما يترك نقصاً واضحاً في القوة البشرية المقاتلة لم يعوّضه مدّ فترة التجنيدَين؛ الإلزامي أو الاحتياطي، وهذا يضع الجيش في مأزق عدم القدرة على تنفيذ عملياته العسكرية في القطاع. يضاف إلى ذلك أن معارضي استمرار الحرب يطرحون أسئلةً منطقيةً تتعلّق بعدم وضوح الجدوى من الحرب الطويلة، وكأنّ استمرارها أصبح أمراً عبثياً في ظلّ استخدام الأدوات نفسها، ومن دون وضوح ما تريد الحكومة الإسرائيلية فعله في القطاع، وتقديم تصوّر عن اليوم التالي. في هذا السياق، انتقدت الصحافية في “يديعوت أحرونوت”، موران أزولاي، استمرار الحرب والإصرار على فكرة الضغط العسكري وسيلةً لإطلاق سراح الأسرى متسائلةً: “لماذا نتوقّع نتائجَ مختلفةً، إذا كنا نفعل الشيء نفسه، ولماذا الإصرار على الغرق أكثر في وحل غزّة؟”
ما يعقّد القرار السياسي الإسرائيلي حول وقف الحرب، أو حتّى تحديد أفق لها، ناتج إذاً من عدم تحقيق أهدافها، بل واستحالة القضاء الكامل على “حماس”، رغم الضرر الكبير الذي تعرّضت له الحركة، حسب رأي عسكريين كثيرين، سابقين وحاليين، ومحلّلين، خصوصاً مع حالة الإنهاك التي يعيشها جنود الاحتياط، ومن ثمّ فإنّ أيّ انسحاب إسرائيلي من دون تحقيق نتائجَ ملموسةٍ سيُفسَّر حتماً أنّه هزيمة لإسرائيل، ويضعها في مأزق استراتيجي. وهنا تبدو بعض المبادرات العربية التي تضمّنت بنوداً تقضي بنزع سلاح المقاومة من أجل إنهاء الحرب إنقاذاً لإسرائيل من مأزقها.
يتبدّى هذا المأزق في مقال نشره المتخصّص في الشأن الفلسطيني في مركز موشيه دايان، ميخائيل ميلشتاين، في “يديعوت أحرونوت” (20/4/2025)؛ إذ يرى أن الحرب أصبحت كالشوكة في حلق إسرائيل، فلا هي قادرة على تَقيّئها (ولا حتى ابتلاعها)، كما أنها لا تقدر على تحرير الأسرى. ويتعاظم الشكّ في قدرتها على احتلال القطاع، وفي خضمّ ذلك كلّه القيادة الإسرائيلية لا تنخرط في حوار مع الجمهور حول الهدف الاستراتيجي للحرب التي تحوّلت عملاً روتينياً، وتدخل حرب استنزاف تدفع فيها الدولة أثماناً باهظةً، وتعود إلى نقطة البداية، وربّما إلى وضع أكثر تعقيداً مع فرص أقلّ… وهكذا، وحسب ميلشتاين، تجد إسرائيل نفسها بين خيارَين أحلاهما مرّ؛ إمّا أن تواصل القتال الذي لن يؤدّي إلى نصر مطلق، ولا إلى إطلاق سراح الأسرى، أو أن تعود إلى اتفاق تبادل، لكنّه يشترط وقف القتال والانسحاب من غزة، وقد يكون ذلك الشرّ الأقلّ.

وقف الحرب وفق اتفاق تبادل للأسرى لا ينزع سلاح المقاومة هزيمةٌ استراتيجيةٌ في نظر الحكومة الإسرائيليّة

والحقيقة أن ما كتبه ميلشتاين، وغيره من الكتّاب الإسرائيليين، خلاصته أن المقاومة ليست وحدها من تتقلّص خياراتها، فإسرائيل تعاني من الأمر نفسه، بأشكال ودرجات مختلفة، فوقف الحرب، وفق اتفاق تبادل للأسرى لا يتضمّن نزع سلاح المقاومة، يعني هزيمةً استراتيجيةً في نظر الحكومة الحالية، بل وفي نظر قوى المعارضة أيضاً. أمّا استمرارها وتوسيع الهجوم، حسب تهديد المسؤولين السياسيين والعسكريين، فيعني إتاحةَ مزيد من الأهداف التي قد تصل إليها المقاومة، ويعني مزيداً من الخسائر البشرية لإسرائيل، فضلاً عن أنه لن يسرّع تحقيق أهداف الحرب.
ووسط ذلك كلّه، يرى كثيرٌ من الإسرائيليين أن نتنياهو يختار الأسوأ دائماً، وتحديداً في تصوّره عن “متى تنتهي الحرب؟”، إذ يبدو عازماً على المتابعة في المسار نفسه من دون توقّف، حتى وصل الأمر إلى حدّ التندّر من مواقفه، فالرجل، حسب الصحافي في “يديعوت أحرونوت”، ناحوم برنياع، لن يوافق على وضع نهاية لهذه الحرب، حتى لو قبلت “حماس” كلّ شروط إسرائيل، إذ لم يعد قادراً على كبح نفسه، وأصبح مثل الحافلة التي قد تنفجر إذا توقّفت، تماماً مثلما في بعض أفلام السينما الأميركية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى