ما وراء مزاد سفارة واشنطن في بغداد؟
كتب عماد الجبوري في “اندبندنت عربية”:
أعلنت “السفارة الأميركية والقنصليات في العراق” على صفحتها الإلكترونية عن افتتاح مزاد عبر الإنترنت من 30 يناير (كانون الثاني) الماضي حتى 6 فبراير (شباط) الحالي 2022. كما “سيكون المزاد متاحاً لموظفي السفارة الأميركية والعامة”، ويتضمن سبع حاويات سعة كل واحدة منها 40 قدماً من الأثاث والأجهزة المنزلية الفائضة عن الحاجة، بما في ذلك الأرائك، والمقاعد المزدوجة، وكراسي الطعام، والأثاث الخشبية، والطاولات، والثلاجات. ويمكن الاطلاع عليها على موقع المزاد الخاص بالسفارة (state.gov) في بغداد، والبيع بالدولار الأميركي، ولا يمكن إرجاع المواد المُشتراة أو استرداد المبالغ المدفوعة إزاءها.
وهنا، يمكننا أن نقف عند حدود هذا الإعلان لا أكثر، ولكن كيف لموظف في السفارة أن يشترك في مزاد ثم يشحن الحاوية أو الحاويات إلى بلاده والمبلغ سيتضاعف عليه أكثر؟! وإذا قلنا هذا إجراء شكلي من منطلق حرية الشراء، إذاً ستترك تلك الأثاثات المُباعة أماكن فارغة كثيرة، فلا يُعقل شراء أثاث جديد بدلاً من الفائض، وهذا يعني تقلص عدد الموظفين الذين يشغلونها، وهذا الاستنتاج يقودنا إلى وقائع وأحداث تعرضت لها السفارة، خصوصاً في السنتين الماضيتين من اختراق جدارها ومحاولة حرقها على أيدي أنصار الميليشيات الولائية مطلع 2020، إلى سلسلة متواصلة من القصف الجوي بالصواريخ والطائرات المُسيرة.
وكذلك قول السفير الأميركي السابق زلماي خليل زاد إلى عمار الحكيم، بعد الجلسة الافتتاحية لـ”منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط”، الذي نظمته الجامعة الأميركية في محافظة دهوك شمال العراق في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إذ في بهو الجامعة تكلم زلماي خليل قائلاً: “يا سيد عمار الحكيم، التاريخ ما زال قريباً، ووالدكم الراحل كان معنا، أنا شخصياً الذي قررت بعد مؤتمر لندن قبل تحريركم من صدام أن يكون الحكم بيد الشيعة، كلمتي وكلمة الرئيس بوش كانت واحدة، وهكذا كان الحكم بأيديكم، كل شيء مر من بين أيدينا وتحت سيطرتنا”.
ومع أن الحكيم أقر فوراً بالعرفان له، “لا ننسى جهود سيادتك معنا أبداً”. لكن خليل قاطعه محتداً “ليست جهودي، هذا قرار الولايات المتحدة كلها في تلك الأيام، وكان الجيش الأميركي وكل قواتنا تعمل وتعطي التضحيات في سبيل تثبيت حكم الشيعة في العراق. ولكن ما هي النتيجة، نراكم تقصفوننا بالصواريخ، تريدون تدمير سفارتنا في بغداد وتدمير قواتنا التي هي في الأساس لحماية حكم الشيعة”.
كان جواب الحكيم مرتبكاً، “سيادتكم تعرفون أن هناك متطرفين نحاول صدهم وتقييد حركتهم دائماً وخطابنا…”. فقاطعه زلماي خليل غاضباً، “هذا ليس حقيقة الوضع، وإلا ما أصدرتم قرار مجلس النواب بالانسحاب الأميركي… أنت بحسب وجهة نظرنا جزء من قيادة الحكم الشيعي في هذا البلد، لكن أنت تقول إنك لست مع التطرف، حسناً سيد الحكيم، قل لهم إن الأميركيين سينسحبون بالكامل، وإنهم قادرون أن يسلموا الحكم لمن لا يعضون اليد التي أحسنت إليهم، هذا ما سيحصل”. ثم غادر المكان تاركاً الحكيم مصدوماً ومذهولاً بما سمع.
وعلى ما يبدو فإن سياسة الولايات المتحدة في العراق بدأت تأخذ منحى مغايراً تجاه الحكم الشيعي الموالي لإيران، وربما تصفية السفارة من الأثاث، وما يُشاع عن نقل الموظفين إلى محافظة أربيل في شمال العراق، قد يكون خطوات تمهيدية لضرب الميليشيات المتطرفة وإنهاء سلطة الشيعة الطائفية. ولكن لماذا تنتهج الولايات المتحدة هذا المسلك العسكري وما تخلفه من ضحايا بين صفوف المدنيين، لماذا لا تسلط فلكها الإعلامي على الفاسدين والقتلة وتدعم القانون العراقي في محاسبتهم، ولماذا لا تدفع بالعد العكسي لإنهاء “الحشد الشعبي”، وذلك بإصدار فتوى ثانية من علي السيستاني ينهي فيها فتوى “الجهاد الكفائي”، ثم يُشرّع مجلس النواب قانوناً جديداً يلغي فيه وجود تلك الفصائل المسلحة، وبعدها تصدر الحكومة قراراً بوقف الدعم المالي والتسليحي لهم؟ فكما بدأت بتلك الخطوات الدينية والمدنية، تنتهي بالأسلوب ذاته.
وعلى الأكثر، فإن الولايات المتحدة لا تود فعل ذلك، قد يكون خارج الإطار السياسي الذي تريده، أو أن استفحال الهيمنة الإيرانية داخل العراق شكّل حاجزاً ميدانياً مانعاً لها، وفي كلتا الحالتين هي من أخطاء السياسة الأميركية، التي غالباً ما تستخدم القوة بلا حكمة فتخسر في نهاية المطاف، كما في كوريا الشمالية (1950-1953)، وفيتنام (1964-1973)، والعراق (2003-2011).
ومع ذلك، كما تعاملت الولايات المتحدة مع حركة “طالبان”، بعد 20 عاماً من المواجهات المسلحة (2001-2021)، يمكنها أيضاً أن تتعامل مع القوى العراقية التي جابهتها على مدى السنوات الثماني من المقاومة، فهذه القوى بجناحيها المسلح والسياسي تقف ضد الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بل وضد المشروع الإيراني وتمدده في بعض الدول العربية. ولكن، هل في نية إدارة بايدن فعل ذلك؟ لا أتصور، إذ من طبيعة السياسة الأميركية تفضيل التعامل مع العملاء الذين ينفذون ما يخدم الجانب الأميركي بالدرجة الأساس، وشتان بين العميل والأصيل والأصلاء في خدمة أوطانهم.
وعليه، إذا كان الهدف الأميركي يكمن في تبدل فئة شيعية بفئة سنية تقدم المصالح الأميركية على حساب مصالح الشعب والوطن، فهذا تكرر لارتكاب الخطأ نفسه، إذ من دون التعامل مع إرادة وطنية حرة لا يمكن بناء أرضية متينة تستقر فيها العلاقات العراقية الأميركية من غير الحاجة إلى مزاد تبيع فيه سفارة واشنطن أثاثها في بغداد.