رأي

ما وراء عودة روسيا إلى اتفاق الحبوب

كتب يمان دابقي في صحيفة “العربي الجديد” : أثار إعلان روسيا أخيراً، تعليقها العمل باتفاق نقل الحبوب الأوكراني صدمة وحالة استياء للمجتمع الغربي وأوروبا، فدلالة التوقيت كانت مهمة، إذا ما عرفنا أنّه جاء قبل ثلاثة أسابيع من تمديد الاتفاقية، والتي تعود إلى يوليو/ تموز الماضي، وكان التوصل إليها بمثابة إنجاز لطرفي الصراع، وفتح مخرج لمنع أزمة غذاء عالمية. أعطى دخول تركيا وأميركا وسيطين زخماً للاتفاق، من خلال مساهمتهما بصفة مراقب في المركز الذي أنشئ في إسطنبول. جرى تأمين ممر آمن للسفن من موانئ البحر الأسود، إلى موانئ إسطنبول، ومنها إلى دول العالم، ولثلاثة شهور جرى تصدير 9.5 ملايين طن من الحبوب، استفادت منها 39 دولة. وعلى الرغم من فقدان عوامل الثقة بروسيا، فإنّ موافقتها جاءت من منطلق نزع مكاسب ورافعة لاقتصادها الذي دخل في حالة استنزاف في ظل دخول الحرب شهرها التاسع. استطاعت موسكو توقيع اتفاقية موازية مع أوكرانيا تستطيع من خلالها نزع موافقة دولية على تصدير بعض منتجاتها الزراعية والأسمدة، بالإضافة إلى وضع بند رفع العقوبات الغربية التي فرضت عليها بعد غزوها أوكرانيا.
كذلك، جاءت الاتفاقية تتويجاً لسياسة تركياً بوصفها أحد الأطراف الموثوق بها في أزمة أوكرانيا، فهي من الدول التي رفضت اتباع النهج الغربي في فرض العقوبات على روسيا، وتحوّلت إلى منصّة لمباحثات إسطنبول في جمع طرفي الصراع، لكنّ هذا المسار تعطّل بعد دخول الحرب الأوكرانية في منعطف جديد، وفي الوقت نفسه، كان للولايات المتحدة دور مهم في نجاح الاتفاق، كونها المسؤول الأوّل عن أي أزمة مجاعة على مستوى العالم، كما أنّها تريد إنعاش الاقتصاد الأوكراني لاستمراره في الصمود أمام روسيا، هذا إلى جانب حزم المساعدات العسكرية والدعم المالي الذي وصل إلى 18 مليار دولار. 

وقُبيل انتهاء موعد اتفاق الحبوب، والذي يتطلّب مباحثات جديدة للتجديد، جاءت الضربة من موسكو، تعليق عملها، والذي تزامن مع استهداف أسطولها البحري في ميناء سيفاستوبول، ادّعت موسكو أنّ طائرات مسيرة قامت بعمل إرهابي وتقف وراءه الاستخبارات البريطانية. كان هذا السبب الأول والمعلن لدى روسيا في تعطيل اتفاق الحبوب. بعد يومٍ، صرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عبر وسائل إعلام روسية، قائلاً إنّ بلاده تعرّضت لخديعة في عمل الحبوب، إذ لم يجر السماح للمنتجات الروسية بالتصدير، مضيفاً أنّ سفن القمح تذهب إلى الدول الغنية، وليس إلى الدول الفقيرة. جاء الردّ الأميركي على لسان الرئيس بايدن باعتبار الروايات الروسية حججاً وذرائع واهية. وأضاف وزير الخارجية أنتوني بلينكن بوصفه الإجراء الروسي بالعمل “الشنيع” في حين أعادت الدول الأوروبية تذكير العالم باستخدام بوتين سلاح الغذاء، على غرار ما فعله في سلاح الطاقة في حرب كسر العظم مع الغرب. بطبيعة الحال، لم يمنع ذلك كله تركيا من التحرّك العاجل لإنقاذ الاتفاق. واستطاع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من خلال تواصله مع بوتين إقناعه بالعدول عن قرار التعليق، لكن لم يجر الإفصاح عن مجريات الحوار أو ماذا قدّم له من إغراءات، وهو الأمر الذي يستحق التوقّف عنده. 
معروف أن الرئيس الروسي، بوتين، استغل الوقت المناسب للعب هذه المناورة أو المراوغة مع حكومة كييف، بهدف حصوله على مزايا ومكاسب جديدة من اتفاق الحبوب، لكن السؤال لماذا الآن؟ سيعلم المُتتبع لمسار الحرب الأوكرانية أنّه بعد تفجير جسر القرم وقصة الغموض والاتهامات التي أعقبتها، وما تلاها من انكسارات وانحسار للقوات الروسية في خاركيف وخيرسون، بالإضافة إلى فضيحة نورد ستيريم 1 في تفجير الأنابيب، والتصعيد الأمني الاستخباراتي في أسطول روسيا البحري، إلى جانب الحديث والسرديات عن القنبلة “القذرة”، سيعلم تماماً أن بوتين بدأ يبحث عن مخرجٍ ما يُبرّر به سبب فشله أمام الرأي المحلي الروسي، في الوقت نفسه بدأ يبحث عن مكسب جديد يستطيع من خلاله دعم اقتصاده الحربي. ويبدو أنّ الذرائع توفّرت لديه بسردية الطائرات المسيرة التي استهدفت أسطوله البحري مؤخراً، وجعلها بوابة لطلب روسي في إجراء تحقيق دولي، وتقديم توضيحات وأدلة عن ما جرى في ليلة 29 أكتوبر الماضي، لكن الهدف الأهم من ذلك كله كان يدور بعقل بوتين في توقيع مذكرة جديدة على اتفاقية الحبوب، أو إجراء تعديل عليها، بسبب أنه لم يجن منها الاستفادة المرجوّة، في وقت يعتقد نفسه أنه ساهم في تحسين الاقتصاد الأوكراني، عبر استفادته من واردات بيع الحبوب، كما لم تغب رغبته في الضغط على تركيا لنزع موافقة منها برفع الحظر عن السفن التجارية الروسية، وهذا سيحتاج إجراء تعديل على اتفاقية مونترو الموقعة في 1936، فهل حصل على ما يريد بعد تواصله مع الرئيس أردوغان؟

ستوضح الأيام المقبلة حقيقة رجوع بوتين إلى الاتفاق، فمن المؤكد أنه عاد في مقابل عروض قدّمت له من تركيا، والتي يجمعه معها علاقات أوسع ترتبط بترتيبات دول البلقان وسورية وليبيا، والأهم من ذلك مسائل الطاقة، إذ لا يمكن عزل ملف الحبوب عن عروض ومشاريع الغاز بين الطرفين، لا سيما بعد الحديث عن تحويل تركيا إلى مركز غاز عالمي إلى أوروبا. يبقى السبب الأهم بالنسبة لبوتين معالجة عجزه الواضح في تأمين أسطوله البحري، فبعد الفضائح المتكرّرة عن الاختراق الغربي، والتي بدأت بالطراد موسكوفا، واستهداف قاعدة ساكي الجوية أكثر من مرّة، ومركز القيادة الرئيسي للأسطول، لم يعد أمام بوتين إلّا تشديد الخناق على كييف، بنزع ضماناتٍ منها تلتزم بموجبها بعدم الاعتداء على القرم والميناء، كذلك يجب ألّا ننسى أنّ اتفاقية الحبوب، بحد ذاتها، قوضّت القدرة الروسية في استخدام القدرة البحرية بالمعنى العملي لروسيا، فتأمين ممرٍّ آمن لسفن الحبوب قد قوّض مبدئياً قدرة روسيا على استكمال سيطرتها على كامل سواحل البحر الأسود أو الموانئ الأوكرانية في خيرسون وأوديسا. بالتالي، لجأ بوتين مجدّداً إلى تسليح الغذاء، ولكبح قدرات أوكرانيا، وتخفيف عمليات الزحف في خيرسون، والتي يبدو أنّها ستكون معركة فاصلة قد تحدّد خريطة النفوذ والسيطرة ومصير الحرب على المديين، المنظور والمتوسط.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى