ما نجد أنفسنا أمامه في كل المرات
كتب سليمان جودة في صحيفة البيان
مكن القول إن الحرب على قطاع غزة، التي بدأت بعد هجوم السابع من أكتوبر، قد أنتجت مصطلحات سياسية خاصة بها، وأن هذه المصطلحات قد شاع استخدامها في مرحلة ما بعد ذلك اليوم، وأنها فيما يظهر سوف تستمر معنا لفترة الله أعلم بمداها.
من هذه المصطلحات مصطلح يتكون من كلمتين هما «اليوم التالي» وقد قصدوا به ما سوف يكون في القطاع في اليوم التالي لليوم الذي ستتوقف فيه الحرب بشكل نهائي، لا بشكل مؤقت، ولا بشكل إنساني، ولا بشيء من هذا القبيل.
ويمكن القول أيضاً إن طرفين اثنين هما اللذان أطلقا هذا المصطلح، ثم راح كل طرف منهما يتحدث عن تصوره لما يقصده من وراء ما يقوله، وهذان الطرفان هما الطرف الإسرائيلي ومعه الطرف الأمريكي، وكلاهما لا يكاد يتوقف عن الكلام في الموضوع إلا ليعود إليه. تقدير الطرف الأول أنه سوف يتولى المسؤولية الأمنية في غزة في مرحلة اليوم التالي، ولفترة غير محددة، وقد أعلن ذلك صراحة بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، وقال إنه يضع تصوره عما يراه في مرحلة لم تبدأ بعد، ولا أحد يعرف متى على وجه التحديد يمكنها أن تبدأ.
والطرف الثاني كان تقديره أنه لا يقبل بما يقوله الطرف الأول بهذا الخصوص، لأن معناه أن يسيطر الإسرائيليون على غزة وأن يستمروا في التواجد هناك، بكل ما لذلك من عواقب يراها بالتأكيد الطرف الأمريكي ويعارض على أساسها ما يتحدث عنه نتانياهو.
وهناك تصورات أخرى عما يمكن أن يكون في اليوم التالي، ومن بينها على سبيل المثال أن تذهب إلى القطاع قوات دولية، وأن تشارك فيها أطراف عربية لم يتم تحديدها، وأن تكون مهمتها حفظ الأمن على امتداد غزة، وبما يضمن ألا يتكرر ما جرى في السابع من أكتوبر.
هذا كله نستطيع أن نفهمه في إطار أنه اجتهاد، وأن الذين يعنيهم اليوم التالي بتفاصيله يجتهدون ويضعون ما يرونه على الورق، ويحسبونه، ثم يعلنونه على العالم الذي تتعلق عيونه بما يجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أرض غزة، منذ أن أطلقت «كتائب عز الدين القسام» هجومها في ذلك اليوم الذي لن تنساه الدولة العبرية. ولكن ما بدا أنه ينقص هذا الاجتهاد أنه لم يسأل أصحاب الأرض أنفسهم، الذين هُم الفلسطينيون سواء كانوا في قطاع غزة على شاطئ البحر المتوسط وعلى حدود مصر، أو كانوا في الضفة الغربية على الحدود مع الأردن.
فلا أحد ينكر أن حل الدولتين الذي يتوافق حوله العالم تقريباً، لن يتحقق وحال نجاح المساعي في الوصول إليه، إلا في الضفة والقطاع، وبالتالي، فهناك ارتباط عضوي بين المكانين، وليس من المفهوم أن يكون الحل في القطاع منفصلاً عن الحل في الضفة، لأن القضية فيهما واحدة، ولأن تجاهل أنها واحدة يمكن أن يفرز من جديد أشياء من نوع ما وقع في السابع من أكتوبر.
أعرف أن ما وقع في ذلك اليوم قد أوجع الإسرائيليين كما لم يوجعهم شيء منذ حرب أكتوبر 1973، وأعرف أن كابوس السابع من أكتوبر سوف يصاحبهم إلى زمن طويل، وأعرف وأعرف إلى آخر ما يقال في هذا الاتجاه، ولكن هذا كله لا يبرر أن يفكر الطرفان الإسرائيلي والأمريكي، وكأن الأرض في غزة لا صاحب لها، ولا ناس من بني البشر يقيمون فيها.
هؤلاء الناس يجب أن يوضعوا في الاعتبار، ولا بد أن يكون لهم حساب، وأن يتم التعامل مع اليوم التالي على أساس أنه يخصهم أكثر مما يخص سواهم، وأنه يحتاج رغبة جادة في تقديم حل جاد، وأن ما عدا ذلك سوف يعيدنا إلى المربع الأول في كل مرة، وسوف يضعنا في كل مرة كذلك أمام حقيقة تقول إنه لا بديل عن دولة فلسطينية مستقلة، وذات سيادة، وعاصمتها القدس الشرقية.
قد يبدو كلام كهذا بعيداً عن الواقع في نظر الإسرائيليين، أو على الأقل في نظر فريق منهم، ولكن هذا لا ينفي أنه الحقيقة التي نجد أنفسنا إزاءها في كل المرات.