ما فعله هيغسِث: إعلان دخول الولايات المتحدة إلى مرحلة ما بعد الليبرالية

كتب عبدالكريم سليمان العرجان في صحيفة العرب.
ما يجري ليس مجرد انضباط إداري ضد التسريبات بل ولادة نمط جديد من الحكم يمكن تسميته بـ”الترامبية الأمنية”.. نظام يرى في الحقيقة خطرًا وجوديًا وفي الصحافة سلاحًا غير وديّ.
هل وصلت الديمقراطية الأميركية إلى لحظتها السوفيتية؟ حين يصبح الصحفي تهديدًا للأمن القومي، والمعلومة جريمة، ووزارة الدفاع تفرض “قسم الصمت” على من يكتب، فهل ما زالت واشنطن تمثل العالم الحرّ، أم أصبحت أول دكتاتورية رقمية ترتدي بدلة ديمقراطية؟
لم تعد واشنطن تتحدث باسم “العالم الحرّ”، بل باسم “العالم المُراقَب”. ففي اللحظة التي وقّع فيها وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسِث قراره بمحاسبة كلّ من “يصل إلى المعلومة دون إذن”، لم يكن يحمي أسرار الدولة، بل يعلن سقوط أحد آخر جدرانها الأخلاقية. كانت تلك لحظة نادرة في التاريخ الأميركي: اللحظة التي قرّر فيها السيف أن يصادر القلم، والجيش أن يُعيد تعريف الحرية.
إنها ليست أزمة داخلية بين البنتاغون والصحافة، بل بداية فصل جديد في تحوّل الديمقراطية الأميركية إلى نظام أمني بوجه مدني، حيث لم تعد حرية التعبير جزءًا من بنية الدولة، بل خطأً هندسيًا يجب تصحيحه.
إنها ليست أزمة داخلية بل بداية فصل جديد في تحوّل الديمقراطية الأميركية إلى نظام أمني بوجه مدني حيث لم تعد حرية التعبير جزءًا من بنية الدولة بل خطأً يجب تصحيحه
في عهد ترامب الثاني، لم تعد الدولة الأميركية “تحتوي” مؤسساتها، بل بدأت “تُعيد برمجتها”. والوزارة التي كانت ذات يوم بيتًا مفتوحًا للصحفيين، تحولت إلى قبو محكم يُدار بعقيدة “الولاء قبل المعلومة”. ما يجري ليس مجرد انضباط إداري ضد التسريبات، بل ولادة نمط جديد من الحكم يمكن تسميته بـ”الترامبية الأمنية”: نظام يرى في الحقيقة خطرًا وجوديًا، وفي الصحافة سلاحًا غير وديّ.
تاريخيًا، كانت واشنطن تُحارب الأنظمة التي تُحاكم الصحفيين، واليوم صارت تُحاكم من يقرأ. هذا التحول ليس تفصيلًا إداريًا، بل انقلابًا معرفيًا على فكرة الدولة الليبرالية نفسها. في أمريكا الجديدة، لم تعد الحقيقة تُولد في الصحف، بل تُنتج في المختبرات العسكرية، وتُراقب داخل قاعات الاستخبارات، ثم تُوزّع على الإعلام كما تُوزّع بيانات الحرب. إنها عودة الدولة الأمنية، لكن بلغة الحداثة الرقمية: لا أحد يُمنع من الكتابة، ولكن لا أحد يُسمح له بالمعرفة.
في فلسفة القوة، أصبحت المعلومة أخطر من السلاح. فالسيف لا يُخيف النظام بقدر ما تُخيفه الكلمة التي تفضح ما وراءه. ولذلك، لم يعد الصراع بين واشنطن وبكين أو موسكو، بل بين واشنطن ووعيها ذاته: كيف تحمي الدولة أمنها دون أن تقتل ما يجعلها دولة؟
هنا ينهض سؤال أوروبا القديمة: هل يمكن لديمقراطية أن تظل ديمقراطية حين تضع الحقيقة تحت وصاية البندقية؟ أم أن كلّ دولة، مهما بلغت من تحضّر، تحمل في داخلها جين الانقلاب على ذاتها عندما تشعر بالخطر؟
ما فعله هيغسِث ليس قرارًا وزاريًا، بل إعلان دخول الولايات المتحدة إلى مرحلة ما بعد الليبرالية، حيث يتم استبدال “الحق في المعرفة” بـ”الحق في الطاعة”. فالذي كان يُسمى “الصحفي” صار يُعامل كجندي متمرد، والذي كان يُسمى “المصدر” صار يُصنّف كتهديد أمني.
ما يحصل في واشنطن اليوم ليس سوى مرآة تُظهر أن العالم يدخل عصرًا جديدًا: عصر الأمن المطلق والمعلومة المقيّدة. وإذا كانت السوفيتية قد انهارت لأنها منعت الكلمة، فهل تبدأ أميركا بالانهيار لأنها قتلت معناها؟
هكذا يتحول الإعلام من عين المجتمع إلى عين النظام، من سلطة رابعة إلى فرعٍ من فروع وزارة الدفاع. إنها عملية تدجين كبرى للوعي الأميركي، بآليات قانونية وأخلاقية في المظهر، لكنها عسكرية في الجوهر.
من منظور فلسفة النظم، ما نراه هو نهاية العقد الليبرالي بين الدولة والمعلومة. لم تعد الحقيقة سلعة عامة، بل ملكية أمنية. لم تعد الدولة تتنافس على شرعية المعرفة، بل تحتكرها باسم “حماية الأمة”. وبهذا المعنى، فإن ما يجري في البنتاغون ليس حربًا ضد التسريبات، بل ضد فكرة “المعرفة الحرة” ذاتها.
يمكن القول إنّ واشنطن انتقلت من “هيمنة القوة” إلى “هيمنة الوعي”، حيث لم يعد المطلوب السيطرة على الجغرافيا، بل على البنية الإدراكية للمجتمع: ما يُعرف، وكيف يُفكّر، ومتى يُسمح له أن يتحدث.
لكن المأساة الكبرى لا تكمن في القرار ذاته، بل في صمت الداخل الأميركي. فالإعلام الذي كان يُفكك حروب العالم، بات عاجزًا عن تفكيك حربه مع حكومته. وحين يصمت الإعلام، لا يعود الصمت حيادًا، بل مشاركة في الجريمة. وحين يخاف الصحفي، لا يبقى الخطر على الصحافة فقط، بل على فكرة الإنسان الحرّ ذاتها.
قد يقول البعض إنّ كل دولة لها الحق في حماية أسرارها، وهذا صحيح. لكن في الأنظمة الحرة، يُحمى السر بالقانون لا بالخوف. وفي الأنظمة الخائفة، يُحمى القانون بالسر. وهذا هو الفارق بين دولة تحمي نفسها من الخطر، ودولة تحمي نفسها من الحقيقة.
ما يحصل في واشنطن اليوم ليس سوى مرآة تُظهر أن العالم يدخل عصرًا جديدًا: عصر الأمن المطلق والمعلومة المقيّدة. وإذا كانت السوفيتية قد انهارت لأنها منعت الكلمة، فهل تبدأ أميركا بالانهيار لأنها قتلت معناها؟




