ما غاب عن تشخيص حزب العمال لأزمة الجزائر
كتب صابر بليدي, في “العرب”:
لا يختلف اثنان على أن الوضع الراهن في الجزائر ليس وليد اليوم، وامتداداته تعود إلى عقود مضت وكان حزب العمال أحد شهوده إن لم يكن صناعه وكان الشارع يغلي على نار هادئة.
حمل بيان حزب العمال الأخير مسحا للأزمة التي تتخبط فيها الجزائر منذ سنوات، ولذلك فهو يقدم خدمة للسلطة في ما يتعلق بجرد الإشكالات المتنوعة التي تعترض طريق التوافق الوطني في الجزائر حول خارطة طريق للخروج من المأزق، خاصة في ظل إعلان الرجل الأول في الدولة عن فتح حوار وطني شامل مع كل القوى الحية في البلاد.
تحدث البيان عن أزمة الشرعية، وعن مأزق الاستحقاقات الانتخابية، وعن المقاطعة الشعبية لمسار السلطة، وعن الحقوق السياسية والإعلامية ومعتقلي الرأي، واختطاف الحراك الشعبي، وغيرها من المحاور. لكن غاب عنه تشريح أزمة الطبقة السياسية والحزبية في البلاد، التي ساهمت في تعقيد الأزمة.
يتذكر المتابعون كيف كان الشارع يطالب بحل أحزاب السلطة، ويطرد رموزها من المظاهرات التي عمت الشوارع الجزائرية في 2019، وكيف كان التغيير الشامل يتصدر مطالب المحتجين كل جمعة وثلاثاء، بما في ذلك الطبقة السياسية والحزبية التي ساهمت في تمديد وتعقيد الأزمة السياسية.
الأحزاب لم تعد تُعرف بأفكارها وبرامجها بعدما انخرط الجميع في لعبة دعم برنامج الرئيس وهو ما أسس لقناعة عميقة لدى الشارع الجزائري بأن ما يعرف بالأحزاب السياسية هي أحد أوجه الأزمة
في الواقع، شرّح بيان حزب العمال بدقة تفاصيل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، لكن لا أحد يدري إن كان ذلك هو موقفه لو سار ترشيح لويزة حنون في الانتخابات الرئاسية بمرونة وسلاسة، كما تم ثلاث مرات خلال العقود الماضية.
لا يختلف اثنان على أن الوضع الراهن ليس وليد اليوم، وامتداداته تعود إلى عقود مضت كان حزب العمال أحد شهوده إن لم يكن صناعه. ففي انتخابات 2014، عندما كان الشارع الجزائري يغلي على نار هادئة بسبب الولاية الرئاسية الرابعة للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة رغم أنه كان مقعدا على كرسي متحرك، حولت لويزة حنون حملتها الانتخابية إلى هجوم على المرشح المنافس علي بن فليس، ومرافعة على ترشيح بوتفليقة، بدلا من أن تقدم برنامجها لما تبقى من قواعد حزب العمال والحالمين بأفكار اليسار.
في الأصل، الحزب هو مؤسسة سياسية تتبنى برنامجا وأفكارا تناضل من أجلها وتسعى إلى تنفيذها بالوصول إلى السلطة، لكن فتوى الإجماع ورجل المرحلة ميّع العمل السياسي برمته في الجزائر، فصارت الأحزاب عبارة عن لواحق وعكاكيز يستند عليها الرجل المعجزة، بدلا من أن تكون قوة ضغط أو شراكة أو تحالفا واضح المعالم والأهداف.
لم تعد الأحزاب والتيارات السياسية والأيديولوجية تُعرف بأفكارها وبرامجها، بعدما انخرط الجميع في لعبة دعم برنامج الرئيس، وكأنها تأسست لتكون هيئة ملحقة بروابط الرئاسة، وهو ما أسس لقناعة عميقة لدى الشارع الجزائري بأن ما يعرف بالأحزاب السياسية هي أحد أوجه الأزمة والنفور من الفعل السياسي والانتخابي، وهو ما لم يتطرق إليه بيان حزب العمال المذكور.
ظهرت وجوههم في الحلقات الدائرة بالرئيس الراحل بوتفليقة، وتكررت خلال الحملة الانتخابية للرئيس عبدالمجيد تبون، ولا شيء تغير في نظر الناخب الجزائري، وأن ما جرى في السابع من سبتمبر الجاري هو فصل من فصول مسرحية مملة محكوم على الجمهور بمتابعتها.
تأسس حزب العمال في مطلع تسعينات القرن الماضي، ولا تزال لويزة حنون في رئاسته، في خرق واضح لأصول التداول على المناصب. وحتى الأحزاب التي تعرف تغييرا دوريا في قياداتها، لا تحتكم في الغالب لمنطق إرادة القاعدة النضالية وسنة التداول، بل تخضع دائما للعبة الكواليس ومراكز القوة والتأثير وحتى المؤامرات الانقلابية.
وفي انتظار الكشف عن نوايا ومعالم الحوار الذي تريده السلطة مع القوى الحية في البلاد، يكون من أكبر المطبات والمغالطات إذا جرى تنظيمه مع الطبقة الحزبية والسياسية الحالية، وحينها سيكون عبارة عن “مونولوغ”، فكلا الطرفين يعرفان بعضهما البعض، ومن الآن ستبقى دار لقمان على حالها، في ظل سد الأبواب أمام المجتمع للتعبير عن نفسه سياسيا وأهليا، والاعتقاد بأن ما يطفو على السطح حاليا هو الذي يمثل إرادة وصوت الشعب.
ما يجري الآن هو نتيجة طبيعية لمسار من تصحير المشهد السياسي، وغلق منافذ التعبير أمام المجتمع لإخراج إفرازاته السياسية والأهلية، ومنه فإن أدنى شروط النجاح فتح المجال أمام الجميع للإدلاء بآرائهم وأفكارهم
خلال السنوات الخمس الأخيرة، كانت السلطة تقرر ثم تتراجع أو تراجع أحيانا، ولم ير الجزائريون أيا ممن تسمي نفسها أحزابا سياسية أو مجتمعا مدنيا أو مؤسسات إعلامية، تقول لها لا، بل تكتفي بالتلون حسب ما تقتضيه الضرورة الحربائية، وتلك مأساة ضيعت عليها وعلى السلطة وعلى المجتمع عموما فرص توازن القوى الطبيعي والاحتكام للحجة والمنطق.
إذا أرادت السلطة حوارا حقيقيا، لا يجب البناء على مثل هذه الأشكال والنماذج، وإذا كانت لحزب العمال الجرأة ليضع أمام الرأي رؤيته للأزمة القائمة وللحلول المأمولة، فإن نبوءة عميد السياسيين الجزائريين الراحل عبدالحميد مهري تكون قد تحققت، لما عبر عن خشيته من زمن تبحث فيه السلطة عن معارضة ولا تجدها.
ما يجري الآن هو نتيجة طبيعية لمسار من تصحير المشهد السياسي، وغلق منافذ التعبير أمام المجتمع لإخراج إفرازاته السياسية والأهلية، ومنه فإن أدنى شروط النجاح فتح المجال أمام الجميع للإدلاء بآرائهم وأفكارهم، ووضع الكل أمام مسافة واحدة، وحينها يجري الفرز والتصنيف، ولا يبقى من المشهد البالي إلا طويل العمر.
من اليامين زروال إلى عبدالعزيز بوتفليقة ثم عبدالمجيد تبون، لم تشهد الجزائر الرئيس الخارق ولا مالك الخاتم السحري، لكن تميع العمل السياسي وتحول الطبقة الحزبية إلى قطيع صنعا هالة خرافية لهؤلاء، بينما ملك الراحل مهري الجرأة والعقيدة السياسية، لما خاطب الرئيس السابق اليامين زروال: “كحزب (جبهة التحرير الوطني) أتعامل معك كأمر واقع ومقتضى دستوري، لكن ليس محتوما علي أن أسلمك الوعاء الاجتماعي للحزب”.
هذه العبارة وأمثالها هي الوحيدة القادرة على إعادة الروح إلى أوصال الطبقة الحزبية والسياسية، وعلى إعادة كل طرف إلى مكانه الطبيعي، وهذا ما غاب عن سردية حزب العمال في تشريح الأزمة والحلول المناسبة لها.