ما بين الخليج وتونس مسافة قرار.. لا أكثر

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.
الرئيس التونسي قيس سعيّد أكد مرارًا أن المعركة ضد الفساد هي معركة سيادية وأن تعطيل المشاريع لا يأتي من نقص التمويل فقط بل من موظفين متقاعسين.
الذكاء الاقتصادي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية. ولعلّ دول الخليج العربي، بما راكمته من ثروات سيادية وخبرة استثمارية، تقدم اليوم نموذجًا نادرًا في فنّ تنويع المخاطر. فمنذ سنوات، أدركت هذه الدول أن الاعتماد على النفط وحده أشبه بوضع البيض في سلة واحدة، وأن المستقبل لا يُبنى على مورد واحد، مهما بدا وفيرًا.
ولذلك، حين تتجه دول الخليج نحو تنويع استثماراتها، فهي لا تُقامر، بل تُحسن الاختيار. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا لا تكون تونس إحدى هذه السلال الاستثمارية الذكية؟ بل، لماذا لا تكون السلة الذهبية التي تجمع بين العائد الاقتصادي والبعد الإستراتيجي؟
وفق تقارير اقتصادية حديثة، بلغت قيمة الاستثمارات الخليجية الخارجية في السنوات الأخيرة أكثر من 4.9 تريليون دولار، موزعة على قطاعات الطاقة، التكنولوجيا، العقارات، الدفاع، والذكاء الاصطناعي. تتصدر السعودية والإمارات هذا المشهد، بحصص تبلغ 49 في المئة و38 في المئة على التوالي من إجمالي الاستثمارات الخليجية الخارجية.
لكن اللافت أن هذه الاستثمارات لا تذهب فقط إلى الأسواق التقليدية كأميركا وأوروبا، بل بدأت تتجه نحو آسيا وأفريقيا، بحثًا عن فرص جديدة، وعوائد أعلى، وشراكات أكثر مرونة.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما حدث مؤخرًا؛ في جولة خليجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعلنت خلالها السعودية والإمارات وقطر عن تعهدات استثمارية تتجاوز 2.4 تريليون دولار في السوق الأميركية وحدها. نعم 3 تريليونات تقريبا تُضخ في اقتصاد دولة واحدة، في وقتٍ تبحث فيه دول الجنوب عن بضعة مليارات.
في المقابل، تقف تونس اليوم على مفترق طرق. بلدٌ صغير من حيث الجغرافيا مقارنة مع الولايات المتحدة، لكنه كبير من حيث الإمكانات التي تشمل: موقع إستراتيجي يربط أوروبا بأفريقيا، موارد بشرية عالية الكفاءة، بتكلفة تنافسية، بنية تحتية مقبولة وقابلة للتطوير، اتفاقيات تجارية تتيح النفاذ إلى أكثر من 500 مليون مستهلك وقطاعات واعدة في الطاقة المتجددة، الصناعات الغذائية، السياحة، التكنولوجيا والصحة.
وقد سجّلت تونس في عام 2024 استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 3.2 مليار دينار تونسي، بزيادة 26 في المئة عن العام السابق. لكن رغم هذا التحسن، لا تزال البلاد بعيدة عن استغلال كامل طاقتها الاستثمارية.
لنكن صريحين: تونس لا تعاني من نقص في الفرص، بل من وفرة في العوائق. تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في 2025 أشار إلى أن معدل الاستثمار في تونس تراجع إلى 16 في المئة من الناتج الداخلي الخام، مقارنة بـ19.3 في المئة في 2016.
على رأس قائمة العوائق تأتي التعقيدات الإدارية، وكثرة التراخيص، وصعوبة النفاذ إلى التمويل البنكي، خاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وغياب رؤية اقتصادية طويلة المدى.
ويرى 70 في المئة من أصحاب المؤسسات في الفساد الإداري عائقًا رئيسيًا. إلى جانب ضعف الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وغياب الحوافز الجبائية الجاذبة.
كل هذه العوامل تجعل من تونس بلدًا واعدًا لكنه غير مهيّأ بعد لاستقبال استثمارات ضخمة، ما لم تُبادر الدولة بإصلاحات جذرية.
المتابع لخطابات الرئيس التونسي منذ 25 يوليو 2021، وخاصة في الأشهر الأخيرة، يُدرك أن قيس سعيد يقود حربا ضد الفساد والبيروقراطية، ويعتبرهما أبرز المعوّقات أمام النهوض الاقتصادي.
الرئيس التونسي عبّر مرارًا عن أن المعركة ضد الفساد داخل الإدارة هي معركة سيادية لا تقل أهمية عن أي مواجهة سياسية.
وأشار إلى أن تعطيل المشاريع لا يأتي من نقص التمويل فقط، بل من موظفين متقاعسين أو “يخدمون أجندات غامضة”، وهو ما يعكس فهما عميقا لتشابك الفساد والتعطيل البيروقراطي، ملوحًا بإحلال من هم خارج الإدارة محل المتقاعسين.
ونتوقع أن تكون الخطوة التالية التي ستصدر عن الرئيس سعيّد هي طرح خطط تنفيذية شاملة وخارطة طريق دقيقة تتناول تبسيط الإجراءات، وتعميم الرقمنة، وإصلاح الوظيفة العمومية.
تحتاج تونس إلى خطاب مطمئن، لكن أيضًا إلى إجراءات ملموسة تُقنع المستثمر بأن البيروقراطية لن تبتلع مشروعه. وتحتاج كذلك إلى استقرار قانوني وجبائي، حتى لا يشعر المستثمر أن الأرض يمكن أن تُسحب من تحته فجأة.
من هذا المنطلق، يمكن صياغة دعوتين متوازيتين:
الدعوة الأولى، توجه إلى دول الخليج، تؤكد لها أنّ تونس ليست عبئًا.. بل فرصة ذكية.
فعند الحديث عن تونس والفرص التي تتيحها لا يقتصر الأمر على الزراعة والسياحة والفوسفات، وما يمكن أن يجنى منها من عوائد مالية. الاستثمار في تونس يعني أيضًا تعزيز النفوذ الإستراتيجي في شمال أفريقيا وعمق القارة الأفريقية، وفرصة لدعم الاستقرار الإقليمي عبر التنمية، وبناء شراكات طويلة الأمد في قطاعات حيوية، والاستفادة من الكفاءات التونسية في مجالات التكنولوجيا والصحة والتعليم.
وإذا كانت دول الخليج قد منحت ترامب تريليونات، فهل يصعب عليها أن تمنح تونس بضعة مليارات تُعيد الحياة إلى اقتصادها، وتُعيد التوازن إلى المنطقة؟
أما الدعوة الثانية فموجهة إلى تونس مفادها: لا تطلبوا الاستثمار.. بل استحقوه.
ما تحتاجه تونس هو إعادة ترتيب بيتها الداخلي. وهذا ما يعمل عليه الرئيس قيس سعيّد، بدءا بإصلاح الإدارة، وتبسيط الإجراءات، وتحسين مناخ الأعمال، عبر قوانين واضحة ومستقرة، ومحاربة الفساد بجدية، وتفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، وتقديم حوافز حقيقية، وإطلاق مشاريع كبرى قابلة للتمويل الخليجي، في الطاقة والسياحة والبنية التحتية.
الاستثمار ليس مجرد أرقام، بل رؤية وثقة وشراكة. ودول الخليج، بما تملكه من حكمة مالية، قادرة على أن ترى في تونس ما لا يراه الآخرون. في الماضي منحت تونس اسمها “أفريقيا” للقارة الأفريقية، واليوم تستطيع تونس أن تمنح الاستقرار الاقتصادي للقارة الأفريقية بأن تصبح بوابة استثمارية نحو أفريقيا وأوروبا.
تونس تدرك أن المال لا يأتي لمن يشتكي، بل لمن يُقنع، وأن ما بين الخليج وتونس مسافة قرار.. لا أكثر.