رأي

ما بعد سقوط حكومة بايرو: أزمة «الوسط» في الغرب تتّسع

كتب سعيد محمد, في الأخبار:

تبدو فرنسا في خضم أزمة سياسية خانقة بعدما رفضت المعارضة تمرير موازنة تقشّف لمواجهة العجز المزمن. ومع خيارات ماكرون المحدودة، تنتقل المواجهة الطبقية من قبة البرلمان إلى الشارع.

لندن | بسقوط حكومة فرانسوا بايرو بعد تصويت بالثقة، مساء الإثنين (364 صوتاً مقابل 194)، دخلت فرنسا طوراً جديداً من أزمة اقتصادية – سياسية خانقة، حيث سيجد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نفسه أمام خيارات محدودة، أحلاها مرّ: إمّا تعيين رئيس وزراء ثالث خلال عام – سيرث حتماً مصير بايرو -، أو حلّ البرلمان مجدّداً والمغامرة بانتخابات مبكرة قد تمنح أقصى اليمين انتصاراً كاسحاً. لكنّ ماكرون اختار، مساء أمس، السير بتكليف وزير الدفاع، سيباستيان لوكورنو، تشكيلَ حكومة جديدة.

هي، إذاً، لحظة حرجة قد تدفع نظام الجمهورية الخامسة برمّته إلى حافة الانهيار، وهي في ذات الوقت، مرآة عاكسة لتيار أوسع يجتاح الغرب خارج الولايات المتحدة: سحْق الوسط النيوليبرالي بين يمين شعوبي ويسار اجتماعي متجدّد، على خلفية تضخّم تغذّيه اختناقات إنتاجية وديموغرافية، وأزمات طاقة وتراكم ديون.

وكان بايرو حاول تمرير حزمة تقشّف وزيادات ضريبية تقارب الـ45 مليار يورو، تضمّنت إلغاء يومين من العطل المدفوعة، وتجميد بعض بنود الإنفاق الاجتماعي. لكنّ كتل المعارضة، من اليسار إلى اليمين، التقت ضدّه، وتوحّدت على حجب الثقة عنه، بعد تسعة أشهر فقط من تولّيه منصبه. ولم يسقط بايرو لأنه سياسي فاشل، بل لأنه كان صريحاً إلى حدّ الوقاحة في خدمة الطبقة التي يمثّلها، وحاملاً رسالة وحيدة وواضحة للفرنسيين: على الطبقة العاملة أن تدفع فاتورة الأزمة، وأن تتقبّل نهاية دولة الرعاية في ثاني أكبر اقتصاد في القارة العجوز.

على أن معالم هذه الأزمة ليست مستجدّة: فالدَّين العام تراكم ليلامس 115% من الناتج المحليّ، وهو يزداد بنحو 5,000 يورو في الثانية الواحدة، وتكاليف خدمته مرشّحة لبلوغ 75 مليار يورو العام المقبل، حتى إن العجز يراوح قرابة ضعف سقف الاتحاد الأوروبي (المحدّد بـ3%)، وعوائد السندات السياديّة باتت ضمن الأعلى في منطقة اليورو، فيما تراجع مؤشّر سوق الأسهم الفرنسية منذ صدمة حلّ البرلمان في عام 2024، مقارنة بمؤشرات أوروبية أخرى. وتعكس هذه الأرقام، بمجموعها، مأزقاً بنيويّاً لا تُغيّره أسماء رؤساء الحكومات.

وقد سار نهج السلطة الماكرونيّة على السعي إلى تحميل كلفة “الإصلاح” إلى مَن لم يصنعوا الأزمة (الطبقات العاملة والوسطى)، وهو ما فجّر التحالف البرلماني الهشّ الذي استندت إليه الحكومة. على أن جوهر الصراع يظلّ طبقيّاً كما دائماً: مَن يدفع فاتورة سنوات من إنقاذ المصارف، والتخفيضات الضريبية للشركات الكبرى، ونفقات جائحة “كوفيد”، وانعكاسات أزمة الطاقة بعد مقاطعة روسيا؟ كانت موازنة بايرو، محاولة سطو صريحة على مكتسبات تاريخية انتزعتها الطبقات العاملة الفرنسية عبر عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثّلة في شبكة الأمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، ونظام التقاعد، وحتى العطلات المدفوعة الأجر.

ووحّد هذا الهجوم الطبقي الصريح جبهتَين متناقضتَين: اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة) وأقصى اليمين (التجمع الوطني)، إذ رفض كلاهما، من منطلقات مختلفة، تحميل الأكثرية كلفة الأزمة. فدافع اليسار موضوعيّاً عن مصالح قاعدته العمّالية والنقابية، فيما لعب أقصى اليمين تكتيكيّاً ورقة حماية “المواطن الفرنسي العادي” كجزء من إستراتيجيته الطويلة الأمد للوصول إلى السلطة. وكانت مقامرة بايرو بالدعوة إلى التصويت على الثقة، محاولة لتخويف البرلمان من “الواقع” الصعب: فإمّا الخضوع لإملاءات رأس المال، أو الفوضى، وهو ما اختاره البرلمان.

أمام هذا الانسداد، يواجه ماكرون مسارات محدّدة تُراوِح بين تضييع الوقت بتعيين رئيس وزراء جديد، وهو ما فعله، أو حلّ البرلمان واستفتاء الفرنسيين على سياسة التقشّف، أو الخضوع لضغوط اليسار والتقدّم باستقالة مبكرة قبل نهاية ولايته في عام 2027. وإذ يبدو أن تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة قد يكون أسرع الاستجابات، لكنها تظلّ مضيعة تامّة للوقت في مواجهة نفس البرلمان – المنقسم إلى ثلاث كتل لا تملك أيّ منها أغلبية -، ونفس القيود: تمرير موازنة 2026 قبل نهاية العام تحت رقابة المفوّضية الأوروبية ومتطلبات خفض العجز المفرط، من دون معالجة سؤال الشرعية الاجتماعية لتوزيع الكلفة.

أمّا مسألة حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، فقد تكون الاستجابة الأكثر منطقية كونها تعيد الأمر إلى الشعب. لكنّ الاستطلاعات الأخيرة أظهرت تقدّم تيار أقصى اليمين (التجمّع الوطني وحلفاؤه) بنحو ثلث الأصوات في الجولة الأولى. وعلى رغم ذلك، فإن نظام الدوائر/ الجولتين يجعل ترجمة الأصوات إلى مقاعد مغامرة لا تضمن كسر التعادل، بل قد تُعمّق الاستقطاب القائم وتعيد إنتاج برلمان معلّق مجدّداً.

الدَّين العام تراكم ليلامس 115% من الناتج المحليّ، وهو يزداد بنحو 5,000 يورو في الثانية الواحدة

أمّا خيار استقالة الرئيس، فيظلّ احتمالاً ضعيفاً سياسيّاً ودستوريّاً، لكنه مطلب يُلوَّح به من أقصى اليسار، فيما لا يزال اليمين المتطرّف يفضّل خيار حلّ البرلمان لتعزيز موقعه التشريعي.
على أن الأزمة في فرنسا باتت أكبر من الأسماء: إنها عجز الدولة عن إدارة تراكم ديونٍ وعجزٍ من دون اللجوء إلى تفكيك عقدها الاجتماعي. وهكذا، تحقّقت النبوءة: فرنسا اليوم، هي “إيطاليا الجديدة”، بعدما أصابها شلل سياسي مزمن، وفقدت القدرة على تشكيل “كتلة تاريخية” حاكمة ومستقرّة.

ويتحمّل إيمانويل ماكرون، بوصفه “رئيس الأثرياء”، المسؤولية التاريخية عن هذا الانهيار، بعدما نجح مشروعه، في عام 2017، بتدمير الأدوات السياسية التقليدية التي استخدمتها البرجوازية الفرنسية لإدارة الدولة بالتبادل الشكلي (الاشتراكيون والجمهوريون)، ليقيم “وسطاً” متطرّفاً لا يمثّل سوى مصالح العولمة ورأس المال. وعندما فشلت مقامرته المتعجرفة في الانتخابات المبكرة (صيف 2024)، انكشف هذا “الوسط” على حقيقته: قشرة رقيقة تفتقر إلى أيّ قاعدة اجتماعية حقيقية.

كان البرلمان المعلّق الذي نتج من تلك الانتخابات تعبيراً دقيقاً عن ميزان القوى الطبقي: كتلة نيوليبرالية (ماكرون) فقدت الأغلبية والقدرة على الحكم، وكتلتان (اليسار واليمين المتطرّف) تتقاطعان على رفض أجندتها، وإنْ بدوافع متباينة. وفقدت النخبة البرجوازية قدرتها على “الإقناع”، وحينما حاولت استخدام “الاستبداد” الدستوري (كالمادة 49.3)، وجدت أن أدوات الاستبداد نفسها قد تآكلت.

وفي ظلّ هذا الفراغ الذي خلّفه انهيار الوسط، تتسابق الكتل على إدارة الأزمة، ولكن لصالح رأس المال. فعلى جهة أقصى اليمين، تلعب مارين لوبن وتلميذها بارديلا، اللعبة بذكاء تكتيكي فائق، إذ لم يكن تصويت “التجمّع الوطني” ضدّ موازنة بايرو موقفاً ضدّ “التقشّف” من حيث المبدأ، فهو ليس معادياً للرأسمالية، ولوبن نفسها لا تقترح بديلاً اقتصاديّاً حقيقيّاً، بل تريد فقط تغيير “كبش الفداء”: فبدلاً من خفض الإنفاق الاجتماعي (الذي يستفيد منه “الفرنسيون الأصليون”)، تقترح خفض الإنفاق على المهاجرين. وهي عندما تدفع إلى حلّ البرلمان، تطلب تفويضاً لإدارة الدولة البرجوازية بيد من حديد، وتقدّم نفسها كـ”ضامن للاستقرار” لقطاعات رأس المال التي سئمت من فوضى الماكرونية، وتحتاج إلى نظام سلطوي قادر على قمع الحركة العمّالية وفرض النظام.

على اليسار، يبدو الموقف أكثر تعقيداً؛ ذلك أن تصويت “الجبهة الشعبية الجديدة” (تحالف تلوينات اليسار) كان دفاعاً طبقيّاً ضروريّاً وموضوعيّاً عن مصالح العمّال والقطاع العام. لكنّ دعوتها ماكرون إلى أن “يأتي ويبحث عنهم” لتشكيل حكومة يسارية، تكشف عن السقف الإصلاحي لهذا التحالف. وهم، بهذا، يعرضون إدارة الأزمة بشكل “أكثر إنسانية”، لكنهم سيصطدمون بنفس “الواقع” الذي تحدّث عنه بايرو: واقع البنك المركزي الأوروبي، وسوق السندات، وقواعد الاتحاد الأوروبي. وأيّ حكومة يسارية ضمن هذا الإطار النيوليبرالي القائم، ستضطرّ، عاجلاً أم آجلاً، إلى تطبيق نسخة مخفّفة من التقشّف، ما سيؤدي حتماً إلى خيانة قاعدتها وتفكّكها، وتمهيد الطريق تالياً أمام أقصى اليمين.

يثبت سقوط بايرو أن الصراع في فرنسا قد تجاوز السياسة ليدخل حقل الاقتصاد السياسي المحض، وبما هو أبعد من مساحة تأثير السلطة في باريس. هي أزمة وجودية للمشروع الليبرالي الغربي برمّته. فليست فرنسا وحدها التي يمسك بخناقها الشلل السياسي؛ فهذه ألمانيا غارقة في ركودها وتناقضات ائتلافها الحاكم، في وقت تتصاعد فيه شعبيّة أطراف الطيف السياسي. وفي بريطانيا، تجد حكومة “العمّال” (رغم أغلبيتها البرلمانية الكاسحة) نفسها عاجزة عن وقف تآكل شرعيتها الشعبية لصالح استقطاب متزايد نحو اليمين المتطرّف واليسار، فيما استقال رئيس وزراء اليابان تحت وطأة الغضب الشعبي من عجز الحكومة عن مواجهة التضخم.

هكذا، فإن سقوط بايرو هو إعلان رمزي عن موت “الوسط” النيوليبرالي الذي حكم فرنسا وأوروبا لعقود. والفراغ الذي تركه، لن يملأه في النهاية التكنوقراط، بل سيُحسم إمّا عبر البديل القومي السلطوي الذي تمثّله قوى أقصى اليمين، أو عبر مواجهة طبقية مفتوحة في الشوارع، تبدو الآن الخيار الوحيد المتبقّي أمام الطبقة العاملة الفرنسية للدفاع عن مكتسباتها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى