كتب شاهر الشاهر في “الميادين نت”: اليومين الماضيين عما قيل إنه احتجاجات وإضرابات في الصين احتجاجاً على سياسة “صفر كوفيد”، بحسب وسائل الإعلام. وهنا، لا بد من توضيح بعض النقاط المهمة في هذا الموضوع. منذ بداية ظهور الوباء في الصين في بداية عام 2020، تم استهداف البلاد إعلامياً، وبصورة كبيرة، إلى حد تسمية الفيروس بـ”الفيروس الصيني”، في سابقة لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل.
لم تنشغل الصين، ورغم قناعتها بأنَّ الفيروس صُنع في الخارج، بالدخول في سجالات ونقاشات لا معنى لها، بل انطلقت للعمل على إيجاد حل سريع للأزمة، معتمدة على ذاتها وقدرات شعبها وسياسة حكومتها، فضربت للعالم مثلاً في إدارة الأزمات وتحويل الأزمة إلى فرصة.
لم تكن الصين في يوم من الأيام عبئاً على العالم والمجتمع الدولي، ولم تنتظر من أحد أن يقدم لها يد العون والمساعدة؛ فعندما كانت تعاني الفقر المدقع لم تطلب المساعدة من المنظمات الدولية، بل أكل الصينيون مما زرعوا، ولبسوا مما صنعوا، فكرسوا ثقافة الاعتماد على الذات ورفض الانصياع لعطاءات الخارج وإملاءاته وشروطه.
عند انتشار “كوفيد 19″، راهن الغرب على دمار الاقتصاد الصيني وعدم قدرة النظام الصحي في بكين على التصدي لأزمة كهذه، لكن الصين اقتنصت الفرصة، وتعاملت بمنطق الدولة العظمى التي تريد أن تكرس للعالم كله أنموذجاً في التعاطي مع الأزمات، فنجحت في ذلك من خلال السيطرة على المرض وكشف أسبابه وإيجاد اللقاحات اللازمة له.
بعدها، انتقلت الصين إلى مد يد العون لباقي دول العالم، في حين كانت الدول العظمى تتسابق على سرقة الشحنات الطبية المتجهة إلى غيرها من الدول، وكادت شعوب تلك الدول تتقاتل فيما بينها في سبيل الحصول على المحارم الورقية التي تستخدمها في حماماتها.
على الرغم من ذلك، لم تسلم الصين من الانتقادات الغربية التي بدأت تتحدث عما سمته “دبلوماسية اللقاحات”، في محاولةٍ للإساءة إلى المساعدات الصينية للدول الفقيرة وربطها بأطماع وأجندات صينية، على حد زعمها. وقد تم الرهان على أن بكين ستعطي أولوية للاقتصاد على حساب المواطن وصحته، لكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً.
لقد فرضت الحكومة الصينية، بناء على رأي المؤسسات الصحية في البلاد، سياسة “صفر كوفيد” الصارمة، التي تهدف إلى جعل الصين بلداً خالياً من أي حالة، فأغلقت الحدود، وأوقفت عجلة الإنتاج، إلى أن سيطرت على الأوضاع الصحية، فعادت الحياة طبيعية بصورة تدريجية.
نجحت الصين في توظيف التكنولوجيا بشكل كبير في السيطرة على المرض وكشف الحالات المخالطة بسرعة فائقة، وهو ما مكنها من عزل بعض الأحياء والمدن أحياناً، إلى أن تتأكّد من خلوها تماماً من المرض. تلك التكنولوجيا أمنت للسلطات الصحية القدرة على فرض الحجر الصحي ومتابعته عن بعد من دون تكاليف مادية تذكر.
واستمرّت الحياة طبيعية في جميع مدن الصين لفترة طويلة، رغم ظهور حالات في مناطق معيّنة يجري التعامل معها وعلاجها، إذ تلجأ السلطات إلى إعادة فرض حجر جزئي أحياناً على مدن وبلدات صغيرة، وتقوم بالإعلان عن ذلك رسمياً، وهو ما يعطي مادة دسمة للإعلام الغربي الذي يبدأ بمهاجمة الصين، مدعياً عودة الوباء إليها، ومن ثم الحديث عن فشل سياسة “صفر كوفيد” وسوى ذلك من الإشاعات المغرضة.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنَّ الحجر الصحي هو حجر صارم وشديد، ولا يمكن لأي إنسان خرقه، إذ يعد ذلك مساساً بالأمن الصحي للبلاد، وبالتالي، مخالفة للقوانين الصحية المفروضة، وهو ما يستوجب العقوبة.
وكانت مدينة شنغهاي قد شهدت إغلاقاً في شهر أيار/مايو الماضي بسبب تفشي الوباء، وبالتالي توقف ميناؤها عن العمل، ما تسبب باضطراب سلاسل التوريد إلى الخارج، وخصوصاً الدول الأوروبية التي تعد أكبر شريك تجاري للصين، ولا سيما ألمانيا، إذ إن معامل السيارات الألمانية موجودة فيها، وتشكل السوق الصينية أكبر مستهلك لتلك السيارات، ما أدى إلى تأثر تلك الدول، وبشكل كبير، إذ ارتفعت أسعار السلع والمنتجات فيها.
ومن المفيد التّذكير بالإشاعات الغربية التي أطلقت في أيلول/سبتمبر الماضي بعد عودة الرئيس الصيني من قمة سمرقند، إذ شاع ما سموه انقلاباً في الصين ووضع الرئيس تحت الإقامة الجبرية، على حد زعمهم، ليظهر بعد أيام في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، ويتبين لاحقاً أنه كان يخضع للحجر الصحي بعد عودته إلى البلاد.
ومنذ نحو 3 أشهر، بدأت الصين بتخفيف إجراءات الحجر الصحي للعائدين من الخارج، فتم تقليص مدة الحجر من 3 أسابيع إلى 5 أيام فقط، وهو ما سمح بعودة آلاف الطلبة الأجانب الذين يدرسون في الصين.
وأعلنت الحكومة الصينية إلغاء الاختبارات الطبية بشكل نهائي في بعض المدن التي شهدت نوعاً من الاستقرار الصحي، إذ لم تعد هناك مخاطر صحية فيها، ومنحت الحكومة الصينية حكومات الأقاليم الحرية في اتخاذ التدابير اللازمة وفقاً لظروف كل مدينة أو بلدة أو قرية.
وكان الحدث الأهم ربما هو التزام الحكومة الصينية بانتظام رحلات الطيران إلى الصين، إذ كانت الحكومة الصينية تفرض عقوبات تقضي بمنع أي طائرة على متنها عدد معين من الحالات من دخول الصين لفترة من الزمن، وهو ما تسبب باضطراب عدد الرحلات الجوية ومواعيدها، وأدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار التذاكر، إذ تجاوز سعر التذكرة الواحدة 10 آلاف دولار في كثير من الأوقات. وبالتالي، فالمعاناة لم تكن على الصينيين وحدهم، بل شملت جميع الأجانب العاملين في الصين أو المقيمين فيها بقصد الدراسة وما شابه ذلك.
وبعد نهاية المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، بدا كأن الصين بدأت تضع إستراتيجية للخروج من سياسة “صفر كوفيد”، لكن ظهرت بعض الإصابات في مدينتي غوانجو وتشونغتشينغ في جنوب الصين، ففرضت السلطات حجراً صحياً على بعض الأحياء في تلك المدن.
الإعلام المعادي للصين تناول الخبر القائل إنَّ الحكومة الصينية تقوم بإغلاق بعض المدن، مثل غوانجو وتشونغتشينغ وبكين، فيما الواقع أن القسم الأكبر من هذه المدن ما زالت الحياة طبيعية فيه. أما الحجر، فقد فُرض على الأحياء التي ظهر فيها الفيروس، وهي لا تشكل سوى جزء بسيط من مساحة تلك الأقاليم.
وتتولى السلطات الصينية تأمين الطعام والشراب مجاناً، وبشكل سريع ومنظم، في تلك الأحياء، عندما لا يُسمح للأهالي بالخروج. هذه الفترة تكون قصيرة لا تتجاوز عادة 3 أيام، ثم يسمح لهم بالخروج للتسوق مرة كل 3 أيام على أقل تقدير.
اندلع حريق منذ يومين في إقليم شينجيانغ ذهب ضحيته بضعة أشخاص، كما تداولت وسائل الإعلام، فتم إلقاء اللوم على سياسة “صفر كوفيد”، لكونها تسبّبت بتأخر وصول الإسعاف وغيره، بحسب زعمهم، وهو أمر مناف للواقع والحقيقة، فما الرابط بين الحجر وسياسة “صفر كوفيد” وتأخر وصول سيارات الإسعاف؟ الجميع يعرف أن الشوارع تصبح فارغة في حال الحجر، ما يسهل وصول سيارات الإسعاف، فالتقصير هنا، في حال حصوله بالفعل، لا علاقة له بسياسة “صفر كوفيد” أبداً.
تم إظهار مقاطع فيديو لتظاهرات بعض الطلبة الصينيين قيل إنها في بكين احتجاجاً على إجراءات الحجر، لكن لم يتم الحديث عن اعتقال أي منهم، ما يعني، فيما لو كانت تلك الصور صحيحة، أن السلطات الصينية تعاملت معها بشكل سلمي وحضاري، بخلاف ما يتم تصويره دوماً في الإعلام الغربي عن سلوك تلك السلطات وقمعها الرأي وعدم القدرة لدى الناس على التعبير.
مطالبات الطلبة لا تعكس بالضرورة الحالة الصّحيحة، فالسلطات الصحية هي الأدرى والأكثر قدرة على صياغة تلك التوجهات، وما عدا ذلك ليس سوى تدخلات شعبوية لا معنى لها سوى الخروج على القانون من منطلق الجهل به أو التأثر بالدعايات المعادية، وليس أكثر من ذلك.
كما أنَّ خروج بعض الطلبة في إحدى الجامعات ليس حدثاً عظيماً في بلد يضم أكثر من 4 آلاف جامعة وعشرات الملايين من الطلبة، لكنه، ومن دون أدنى شك، مؤشر على حال تململ ينبغي للسلطات العمل على معالجته.
أما مناشدة بعض الأشخاص الذين تأثروا اقتصادياً بسبب سياسات الإغلاق، فهي مطلب مفهوم، وربما مطلب محق، وهي مطلب اقتصادي في جوهره، ولا علاقة له بالتشكيك في سياسة “صفر كوفيد” التي يقر الجميع بنجاحها، رغم صعوبة نتائجها عليهم.
وكما هو واضح، فإن الحكومة الصينية ما زالت تعتقد أنَّ مصدر الوباء من الخارج، وتتصرف وفقاً لهذه “الرؤية الصامتة”، ولديها قناعة تامة بأنَّ العالم لم يخرج من أزمة “كوفيد 19” حتى الآن، وهذا ما تؤكده تقارير منظمة الصحة العالمية أيضاً، وبالتالي فإنها تخشى عودة تفشي الوباء أو متحوراته من جديد.
إن “تعظيم المخاطر” وعدم الرغبة في المغامرة هما سلوك صيني عام، وسلوك سياسي على وجه التحديد. لذا، من المتوقع أن تستمرّ الحكومة الصينية في إجراءاتها وسياستها، مع إعطاء مرونة أكبر في التعامل مع التطورات وفقاً لظروف كل إقليم أو مدينة، وهي بذلك تسعى للحفاظ على الناس وإعطائهم أولوية على الشأن الاقتصادي، الذي لا شك في أنه شأن مهم يشكّل هاجساً للحكومة الصينية التي تحسب إنجازاتها الاقتصادية بالساعة والدقيقة، لا بالسنوات والأشهر.
لكنَّ الحكومة لم تنسَ في أيِّأأي حال من الأحوال أنَّ اقتصادها “اقتصاد فضّي” يشكّل كبار السن نسبة كبيرة منه، وهي تفتخر بسعيها للحفاظ على حياتهم، في حين كانت شركات التأمين الغربية تسعى للتخلص منهم باعتبارهم مصدر استنزاف لموازنتها، فالمجتمع الصيني هو مجتمع يحترم الكبار ويقدسهم، ويحترم الحاكم، ويعتبر الانصياع لرأيه مدعاة للفخر، وهو موروث ومتجذر في الفكر السياسي الصيني والفلسفة الكونفوشيوسية.
إنَّ الحملة الغربية التحريضية على الصين ناتجة من كون الصين مصنع العالم، فإذا ما توقف هذا المصنع فستتأثر جميع الأسواق بذلك. وبالتالي، سترتفع أسعار السلع والمنتجات فيها بشكل كبير، ما يزيد معاناة المواطن الأوروبي الذي لم يعد يحتمل بسبب سياسات بلاده وموقفها من الحرب في أوكرانيا.
ومن المتوقع أن تشهد الصين مزيداً من الانفتاح وتحريكاً لعجلة الإنتاج، وهو ما سيتسبب بزيادة الطلب على الطاقة، وبالتالي المزيد من المآسي على القارة الأوروبية، لكن بكين تعطي الأولوية لشؤونها الداخلية ومصالحها الوطنية، غير آبهة بمصالح الآخرين وحاجاتهم، وخصوصاً إذا كانت تتعارض مع مصلحتها الوطنية والقومية.
لقد بدأت بكين، في سياساتها وتوجهاتها، بالاقتراب إلى مناطق النفوذ التاريخية للولايات المتحدة الأميركية (دول الخليج العربي، وخصوصاً السعودية). لذا، علينا توقّع المزيد من الضغوط عليها ومحاولة استهدافها عبر زعزعة الأمن والاستقرار فيها، وهو ما سيجري العمل عليه مستقبلاً.
أصبحت الصين معضلة حقيقية بالنسبة إلى الغرب، فتوقّفها عن الإنتاج مصيبة كبيرة لا يستطيع المواطن الغربي تحملها، وعودتها إلى الإنتاج كارثة لا تطيق الحكومات تدارك تداعياتها وأخطارها، وخصوصاً مع أزمة الطاقة التي أعادت أوروبا عقوداً إلى الوراء.
لذا، من المفهوم هذا التحامل والتعاطي المنحاز مع كلّ ما يحدث في الصين، لكن من غير المبرر تزييف الحقائق وشيطنة كل ما هو صيني، إلى درجة أننا بدأنا نرى كأنّ جميع الأزمات الدولية “صنعت في الصين”.