رأي

ما أشبه اليوم بالبارحة: مصر تستعيد نشاطها لتفكيك الأزمة الليبية

كتب محمد أبوالفضل, في “العرب”:

مصر تستعيد نشاطها السياسي في الأزمة الليبية بسبب خوفها من أن يتحول الوضع الاستثنائي إلى دائم.

أعاد الاجتماع المشترك بين عدد كبير من أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة في ليبيا، النشاط السياسي المصري لتفكيك الأزمة الليبية، ومنحها فرصة للعودة إلى الواجهة بصورة شبيهة بتلك التي كانت عليها من قبل، عندما بذلت القاهرة جهودا حثيثة لتجاوز عقبات اعترت المسارات الدستورية والعسكرية والاقتصادية، وحققت نجاحات ملموسة في كل منها، ثم خفتت التحركات وتراجعت الأنشطة السياسية المعلنة بعد تراكم المشكلات التي أحاطت بالمطالبة بضرورة رحيل حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة.

يعبر استخدام جملة “ما أشبه اليوم بالبارحة” على أن ما جرى في القاهرة الخميس الماضي هو مقدمة لسلسلة من التحركات سوف تقوم بها السلطات المصرية على المستويين الداخلي والخارجي، اللذين لا انفصام بينهما، فمن الصعوبة أن يحدث اختراق في الأول ما لم يكن الثاني مستعدا للانخراط في التحركات الجديدة ومؤيدا لأيّ خطوات تؤدي إلى تغيير الأوضاع بما يساعد على إيجاد حل لأزمة استعصت مفاصلها على التسوية بفعل الهوة الواسعة بين حسابات القوى المؤثرة فيها، وعدم وجود إرادة حقيقية من جانب المجتمع الدولي، يمكنها أن تهيّئ الأجواء المواتية للحديث عن حل جاد للأزمة.

ويتمثل الحراك الذي تقوم به مصر في أهمية تجاوز النفق الذي دخلته أزمة تعيين حكومة جديدة تشرف على إجراء الانتخابات العامة، بينما ينصبّ الخارجي على اختيار مبعوث أممي إلى ليبيا تتوافر فيه مواصفات المعرفة الدقيقة بالأزمة والخبرات اللازمة والحيادية، وعدم الانحياز لأيّ من القوى الدولية التي لها مصالح في ليبيا.

لم تغب ليبيا عن بال مصر، كما لم تغب مصر عن بال ليبيا، طوال الفترة الماضية، لكن الحضور في الحالتين أخذ منحى اقتصاديا لافتا من خلال تكثيف التعاون في مجال مشروعات البنية التحتية، قامت بها القاهرة مع أطراف عديدة في شرق ليبيا وغربها، ومنحى أمنيا عبر مراقبة ما يجري بدقة من تطورات عسكرية في أماكن متفرقة، وأفكار يتم تداولها حول توسيع أدوار بعض القوى الكبرى في سياق توازنات ومعارك كسر عظم بينها، ناهيك عن متابعة حركة التنظيمات المتطرفة التي تريد استعادة أنشطتها بشكل كبير، وتخطط للعودة إلى شرق ليبيا.

تتزايد التحركات العسكرية من قبل قوى إقليمية ودولية معنية بليبيا، وتتصاعد أنشطة الجماعات الإسلامية، وتتعثر المشروعات الاقتصادية المصرية، وتتجذر مكانة بعض الأطراف مع استمرار الحالة الراهنة من الانسداد السياسي، ما يؤثر سلبا على الأمن القومي المصري، والذي يجد في استقرار ليبيا والحفاظ على وحدتها عنصرا إستراتيجيا لا غنى عنه، خاصة أن المبادرات الدولية الجادة لحل الأزمة اختفت بعد أن واجهت عقبات عدة، والحديث عن طيّ صفحة حكومة الدبيبة فتر، بل ووجد الرجل من يدعمون استمراره علنا أو سرا، ما يشي بالدوران في حلقات مفرغة.

كسر اجتماع أعضاء مجلسي النواب والدولة في القاهرة جانبا من محاولات البعض القبول بالأمر الواقع والتعامل معه إلى حين إشعار آخر قد يطول أمده، فالنتيجة التي تمخض عنها الاجتماع وهي تشكيل حكومة موحدة والشروع في الاستعداد لإجراء انتخابات، يمكن أن تحرك المياه الراكدة في البلاد، فالسكون النسبي الذي يخيم على الأزمة الليبية بدا متناغما مع أهدف قوى لا ترى حلا سياسيا في الأفق أو ترغب في التجاوب مع اجتهادات من يريدون تغيير المعادلة الحالية.

وقد يكون من الصعب تنفيذ مخرجات اجتماع القاهرة بشأن اختيار الشخصيات المرشحة للحكومة وإجراء الانتخابات في أجل قريب، إلا أن الأهمية تأتي من تخطي حالة الصمت التي سيطرت على هذين القضيتين الفترة الماضية، بعد ضجيج ملأ ليبيا والعالم حول الانتخابات وجدواها وضرورة دعمها.

فعلاوة على كل السرديات المثالية التي ساندتها قوى متعددة في اجتماعات الأمم المتحدة أو مبادرات قوى كبرى أو أمام وسائل الإعلام من دون أن تتحرك من مكانها، كأن ليبيا سقطت من جدول أعمال المجتمع الدولي، الذي انهمكت بعض قواه في تصفية حسابات خاصة بالحرب الروسية – الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم الحرب في السودان، والتوترات في جنوب البحر الأحمر، وتداعيات كل منها والمعادلات التي تتمخض عنها، وتحولت ليبيا إلى أزمة ثانوية قد تستمر سنوات.


تستعيد مصر نشاطها السياسي في الأزمة الليبية بسبب خوفها من أن يتحول الوضع الاستثنائي إلى دائم، وتستطيع قوى مختلفة أن تتعايش معه طالما أنه يحقق مصالحها الحيوية، ما يفتح الباب نحو استقطابات دولية في المستقبل، لأن السيولة الأمنية التي تعيشها ليبيا تشجع بعض الأطراف على استثمارها لخلق بيئة مواتية لأهدافها في دولة بمثابة مفتاح لجنوب أوروبا ووسط وغرب أفريقيا.

كما أن المقاربة التقليدية المتعلقة بالتأقلم مع الأزمات الإقليمية، جلبت أضرارا للقاهرة من خلال ترسيخ صورة ذهنية حيال قدرتها على التكيف مع المشكلات مهما كان حجمها، بما شجع بعض القوى على توظيف ذلك ضد المصالح المصرية أحيانا، وكان لزاما التفكير في الخروج من هذه المقاربة سريعا.

تبدو الأزمة الليبية التي تملك فيها مصر رصيدا كبيرا من المبادرات والوساطات والتأثيرات والعلاقات الأكثر مجالا للانفتاح، فخبرتها السابقة وفّرت لها قاعدة جيدة للقبض على عدد من المفاصل المؤثرة، وتساعدها على تحريك بعض رقع الشطرنج في الاتجاه الذي يؤدي إلى تغيير الأوضاع التي مكنت عبدالحميد الدبيبة من البقاء في موقعه على رأس الحكومة، ومقاومة المبادرات التي طالبت برحيله، بعد أن تحول من أداة لحل الأزمة في ليبيا إلى وسيلة لتوسيع نطاق تعقيداتها عبر مناوراته المتباينة.

تشير نتائج اجتماع مجلسي النواب والأعلى للدولة حيال تشكيل حكومة جديدة وإجراء الانتخابات في أقرب فرصة إلى أن القاهرة لم تغير موقفها من الدبيبة والمتعلق بانتهاء صلاحية حكومته ورحيله، وتأكيد أن مضمون اللقاء الذي عقده مع رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي مؤخرا محصور في الشق الاقتصادي، ولا ينطوي على معان سياسية ترددت وسط دوائر ليبية عقب هذا اللقاء.

يعزز حضور حوالي 140 من أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة اجتماع القاهرة إمكانية تحريك الأزمة الليبية إلى الأمام، ويدحض تكهنات راجت بشأن تفجر أزمات أمنية أخرى على حدود مصر قاد إلى عدم اكتراثها كثيرا بما يجري في ليبيا، أو أن تحسن علاقتها مع تركيا جعلها غير منزعجة من الوجود العسكري للأخيرة وتصاعد نفوذها السياسي في ليبيا، فهاتان المتلازمتان لم تمنعا القاهرة من إجراء حوارات مع قوى ليبيا لها انتماءات سياسية مختلفة، والانفتاح على كل ما يمكن أن يفضي إلى تسوية الأزمة فيها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى