كتب كمال بالهادي في صحيفة “الخليج”: يبدو أن أوروبا بدأت تقف على حجم الخديعة التي وقعت فيها، والتي جعلت دولة مثل فرنسا تُصدر قانوناً لتقنين استعمال الكهرباء عند فترات الذروة، ولذلك بدأ الرئيس الفرنسي بطرق باب المفاوضات مع روسيا، من أجل وقف الحرب وإنهاء النزاع الذي دخل شهره التاسع.
حديث ماكرون عن المفاوضات مع روسيا وعن فترة ما بعد حرب أوكرانيا، والحاجة إلى سلام دائم وشامل في شرق القارة الأوروبية، لا يأتي من فراغ؛ بل من حجم الأزمة التي باتت تعيشها أوروبا، والتي يمكن أن تتصاعد مع تقدّم فصل الشتاء وهطل الثلوج.
الرئيس الفرنسي ماكرون لم يقطع الصلات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد أرسل من واشنطن رسائل واضحة عن الحاجة إلى مفاوضات سلام بين الغرب و روسيا. وفي هذا التصريح أكثر من دلالة، فمن حيث المكان، فإن الرئيس الفرنسي يثبت أنه تلقى ضوءاً أخضر من الرئيس بايدن لإرسال رسالة إرضاء بوتين، ومن حيث الزمان، فإن أوروبا تشهد أزمة خانقة باتت تهدّد بانفجارات اجتماعية. ومن هنا تأتي دعوة ماكرون إلى ضرورة تلبية طلبات الرئيس الروسي بتوفير ضمانات أمنية، بسبب تمدّد حلف «الناتو» حتى بات يقف على حدود روسيا.
الرئيس الفرنسي قال صراحة: «يجب أن نفكر في الهيكل الأمني الذي سنعيش في ظله غداً. نحن نتحدث بشكل خاص عن كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن «الناتو» يقترب من حدود روسيا، وينشر أسلحة يمكن أن تهدّدها». وتابع بالقول: «ستكون هذه المسألة جزءاً من المناقشات حول السلام، ونحن بحاجة إلى الاستعداد لما سيحدث بعد (النزاع الأوكراني) والتفكير في كيفية حماية حلفائنا، وفي الوقت نفسه، منح روسيا ضمانات أمنية عندما تتم العودة إلى طاولة المفاوضات».
مثل هذه التصريحات تبرز العجلة الأوروبية والفرنسية، خاصة في العودة إلى طاولة المفاوضات وتلبية مطالب روسيا، ما يعني تسليم الغرب بضرورة وقف الحرب أولاً، وإعادة الغاز الروسي ثانياً، ومن ثمة الحديث عن مستقبل أوكرانيا التي رفض زعماؤها العودة إلى المفاوضات. واعتبر ماكرون أنه «يجب أن نواصل مساعدة أوكرانيا، والسعي إلى تجنّب التصعيد، وحماية محطة زابوريجيا الكهروذرية والتحضير للحوار، استعداداً لليوم الذي سيجلس فيه الجميع على طاولة المفاوضات». كل هذه التصريحات المتواترة تُثبت أن أوروبا في ورطة، وأن الرئيس الفرنسي ربما يقود التيار العقلاني الذي بات يطالب بإعادة العلاقات مع روسيا؛ لأن أوروبا هي التي تخسر في النهاية، ولأن الشعوب الأوروبية هي التي تدفع الثمن.
صحيح أن الوضع «الطاقوي» في فرنسا مازال مستقراً، ولكن المخاوف تتزايد بعدم وصول إشعارات من الحكومة الفرنسية إلى حكام الأقاليم والبلديات تشعرهم بأنه عليهم الاستعداد للحالات الأكثر سوءاً، والتي ستجعل الحكومة تقرّر تنفيذ القانون الذي أصدرته والذي ينص على تقنين استعمال الكهرباء لساعات معينة في اليوم، للتحكّم في مصادر الطاقة الشحيحة بعد أن قطعت روسيا تزويدها لفرنسا بالغاز.
ففي أغسطس الماضي قطعت «غاز بروم» الروسية إمداد الغاز الذي يمثّل وفق ماكرون نحو 20%، واعتبر ماكرون حينها أن فرنسا «ضمنت احتياجاتها لفصل الشتاء، والمخزونات في حدود 90%»، لكن رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، دعت الشركات في بلادها إلى خفض استخدام الطاقة أو مواجهة تقنين محتمل هذا الشتاء. ورئيسة الوزراء هي نفسها مَن عادت قبل أيام قليلة إلى التحذير من السيناريو الكارثي.
ويبدو أن مشكلة فرنسا ليست في الغاز الروسي وحده؛ بل أيضاً في الحاجة الماسة لروسيا في ما يتعلق بالمحطات النووية، حيث نشرت صحيفة «لوموند» تقريراً أوضحت فيه أن «الحرب في أوكرانيا كشفت أن الصناعة النووية الفرنسية تعتمد بشكل كبير على موسكو». وأشارت إلى أن «الوقف النهائي لتجارة اليورانيوم بين باريس وموسكو، ستكون له عواقب حتمية على قطاع إعادة تدوير اليورانيوم، ويمكن أن يؤدي في النهاية إلى اعتباره من النفايات الإضافية التي تجب إدارتها، وليس كمواد يمكن إعادة استخدامها».
وفي هذا السياق، أفادت «لوموند» بأنه «في العامين الماضيين، جرى إرسال اليورانيوم من فرنسا إلى روسيا، ووثقت منظمة السلام الأخضر غير الحكومية المناهضة للأسلحة النووية ما لا يقل عن 5 شحنات بين يناير 2021 ويناير 2022». والثابت أن موقف ماكرون هو الذي يدفعه إلى مطالبة الأوروبيين وحلفائهم الأمريكيين بضرورة تلبية مطالب بوتين.