كتب باسل الحاج جاسم, في “العربي الجديد”:
أثارت أعمال التخريب التي ضربت شبكة القطارات الفرنسية، قبل انطلاق الأولمبياد بساعات، تساؤلات كثيرة بشأن الدوافع وراء ذلك، في ظلّ مشهد سياسي داخلي فرنسي مُعقَّد، وسط توتّرات اقتصادية واجتماعية تشهدها البلاد، ولا يمكن فصلها عن تطوّرات خارجية، متعلّقة بالحرب الدائرة في أوكرانيا، والصراع مع روسيا، ودور فرنسا الذي يتآكل في القارّة الأفريقية وفي مناطق نفوذ تاريخية.
وأيّاً كان الطرف الذي يقف وراءها، ستزيد هذه الأحداث من تعقيدات التوتّر الأمني وحدّته في فرنسا، ممّا قد يدفع السلطات إلى اتّخاذ إجراءات أمنية مُشدَّدة، كما أنّها ضربةٌ للصورة الدولية لفرنسا، وستُؤثّر سلباً في قطاع السياحة، لكونه من أهم ركائز الاقتصاد الفرنسي، خاصّة في فترة الأولمبياد. ومع عدم تبنّي أيّ جهةٍ لهذه العمليات التخريبية، وغياب أيّ أدلَّةٍ حتّى الآن، تدور شبهات حول جماعات داخلية مُتطرّفة، وشبهات خارجية حول دول أو مجموعات وحركات مُتطرّفة عابرة للحدود، وقد يكون مُنفِّذ التخريب طرفاً محلّياً يخدم أجندةً خارجية، فهناك اتّهامات لأطراف فرنسية بأنّها طابورٌ خامسٌ يخدم دولاً أخرى.
والواضح أنّ تلك الأعمال نفَّذها مُحترِفون، مع تخطيط جيّد عند نقاط محددة، لإحداث هذا التأثير الكبير في شللٍ غير مسبوقٍ أصاب حركة القطارات السريعة، في الوقت الذي ركّزت فيه الحكومة الفرنسية إجراءاتها تحسُّباً لهجماتٍ قد تحدُث على الطريقة التقليدية، لكنّ العقلَ المُدبِّرَ استهدف نقاطاً غير محميَّة، وبالفعل أربكت فرنسا بأكملها، وراحت تحبس أنفاسها وهي على أبواب حدث رياضي كبير.
توتّرات اقتصادية واجتماعية تشهدها فرنسا، ولا يمكن فصلها عن تطوّرات خارجية، متعلّقة بالحرب الدائرة في أوكرانيا
بعد الانتصار التاريخي لليمين المُتطرّف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، التي أجريت في التاسع من يونيو/حزيران الماضي، بحصوله على أكثر من 31% من الأصوات، قرَّر الرئيس إيمانويل ماكرون الدعوة لانتخابات تشريعية مُبكِّرة، وبعد دورتَين أُجريتا في 30 يونيو و7 يوليو/ تمّوز الماضيين أسفر الاقتراع عن مشهدٍ سياسيٍّ غير مسبوقٍ في فرنسا، فبالرغم من تصدُّره الجولةَ الأولى، اكتفى التجمُّع الوطني (اليميني المُتطرّف) بالمركز الثالث بـ143 مقعداً خلف تحالف اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة)، الذي تصدَّر النتائج بحصوله على 182 مقعداً، والتحالف الرئاسي الذي حلّ ثانياً بـ168 مقعداً، ولم تُسفر الانتخابات عن أيّ أغلبيةٍ في الجمعية الوطنية، وبين التوقُّعات بتشكيل ائتلاف حكومي أو اتفاقات حالة بحالة أو اللجوء إلى المادة 49.3، تخيّم حالةٌ من الغموض بشأن الشخصية التي ستتولَّى رئاسةَ الوزراء.
بعد النتائج التي حقَّقها اليمين المُتطرّف خلال انتخابات البرلمان الأوروبي، ما دفع بعضهم إلى وصف ماحدث بالزلزال السياسي، الذي سيغيّر وجه أوروبا، باتت مقولة “اليمين المُتطرّف في تصاعد” تتردَّد ليس فقط في فرنسا، بل في عموم أوروبا، في حالة يقال إنّها تشابه ما كانت عليه القارّة في الثلاثينيّات من القرن الماضي، إلّا أنّ نتائج الجولة الثانية في الانتخابات البرلمانية الفرنسية أظهرت فوزاً مفاجئاً وغيرَ مُتوقَّع لليسار، المُتمثّل في تحالف الجبهة الشعبية الجديدة بزعامة جان لوك ميلانشون (اليساري المُتطرّف)، وهزيمة اليمين المُتشدّد، الذي بدا قريباً من الفوز في الجولة الأولى.
شهدت الساحة السياسية الأوروبية في السنوات القليلة الماضية صعوداً ملحوظاً لكلٍّ من التيّارات المُتطرّفة اليسارية واليمينية، وهذا الصعود في أوروبا هو نتيجة عوامل عدّة متداخلة، منها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما أنّها ليست ظاهرةً فرنسيةً وأوروبيةً وإنّما عالمية، وسط أحداث جيوسياسية مهمّة، وتزايد النزعة القومية، في ظلّ مناخ مُثقَلٍ بالوضع الاقتصادي القاتم، والحرب في أوكرانيا، وتحدّيات استراتيجية في العلاقة مع الصين وأميركا.
بعد نتائج اليمين المُتطرّف خلال انتخابات البرلمان الأوروبي، باتت مقولة “اليمين المُتطرّف في تصاعد” تتردَّد في عموم أوروبا
وتشير التقديرات إلى رهان ماكرون، عندما قرَّر حلَّ الجمعية الوطنية، والتوجُّه نحو انتخابات برلمانية مُبكِّرة، إلى أنّ الأحزاب الأخرى مشتَّتةٌ ولن تستطيع التوحُّد خلال فترة وجيزة، والتصويت سيكون لصالح التحالف الرئاسي، لأنّه سيكون خوفاً من اليمين المُتطرّف وضدّ صعوده، وإلى أنّه كان مُتأكّداً من أنّ الأطراف المناهضة لليمين المُتطرّف قادرةٌ على مواجهته، أو أنّ ماكرون يريد توريط هذه الأحزاب في فخّ المشاركة في الحكم في ظلّ توتّرات اجتماعية اقتصادية سياسية صعبة تمرّ فيها البلاد، لا سيّما مع تقدير صعوبة قدرتها في الحصول على أغلبية برلمانية مطلقة تؤهّلها لتشكيل حكومة بمفردها، ليرأسها زعيمها جيوردانو بارديلا، لتنفيذ برنامجه بأغلبية مُريحة. إلّا أنّ ما حصل أظهر أنّ الخاسر الأكبر هو المعسكر الرئاسي نفسه، بعد نجاح تحالف اليسار، الجبهة الشعبية الجديدة، في رهانَين، تقديم لائحةٍ موحّدة في وقت قياسي، وتقديم برنامجٍ عاجل، وانعكس ذلك في صناديق الاقتراع من الجولة الثانية للانتخابات التشريعية، وعرقل استمرار صعود اليمين المُتطرّف، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنّه في بداية رئاسة ماكرون كان من شعاراته إضعاف اليمين المُتطرّف، وتقليل الأصوات التي يحصل عليها، ولكن ما حصل هو العكس، واليوم أيّاً كان السيناريو الحكومي القادم، تنتظر ماكرون أيامٌ صعبةٌ في ما تبقَّى له من سنوات في قصر الإليزيه.
يبقى القول، إنّ مُصطلحات اليمين أو اليسار المُتطرّفَين، مُصطلحات مُعقَّدةٌ ذات دلالات مختلفة، حسب السياق، وتقييم كلّ جماعة أو حركة سياسية على حدة، يكون بناءً على أيديولوجيتها وسلوكها.