ماكرون لا يستبعد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا… ويثير جدلاً
حتى وقت قريب، كان من «المحرمات» التفكير في إرسال قوات أوروبية للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية. والسبب في ذلك أن الغربيين كانوا حريصين على تجنب الانخراط مباشرة في الحرب الدائرة رحاها منذ عامين في أوكرانيا حتى لا يعدوا «مشاركين» فيها، رغم وقوفهم إلى جانب أوكرانيا وتزويد قواتها بالسلاح والعتاد والمعلومات الاستخبارية والخبراء والتدريب فضلا عن كل أنواع الدعم الأخرى، أكانت سياسية ودبلوماسية أو اقتصادية ومالية.
الأهم من ذلك أنهم حرصوا على حرمان روسيا من ذريعة لتوسيع نطاق الحرب التي كان يمكن أن تتطور لتصبح حربا بينها وبين الحلف الأطلسي. والحال أن هذه «المحرمة» قد تكون على وشك السقوط بالنظر إلى ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ختام الاجتماع رفيع المستوى الذي التأم مساء وليل الاثنين في العاصمة الفرنسية، والذي ضم 27 دولة، وحضره 21 رئيس دولة وحكومة. وقد تمثلت الولايات المتحدة بمساعدة وزير خارجيتها فيما مثل بريطانيا وزير خارجيتها ديفيد كاميرون.
هزيمة روسيا
ينطلق ماكرون من مسلمة أساسية عبر عنها بقوله: «نحن مقتنعون بأن هزيمة روسيا ضرورية للأمن والاستقرار في أوروبا». ولأجل بلوغ هذا الهدف فإنه «لا ينبغي استبعاد أي شيء. سنفعل كل ما يلزم لضمان عدم تمكن روسيا من الفوز في هذه الحرب» بما في ذلك إرسال قوات برية إلى أوكرانيا. بيد أنه استدرك قائلا: «ليس هناك إجماع اليوم من أجل إرسال قوات إلى أوكرانيا بشكل رسمي وتحمل تبعات ذلك. إلا أن هناك دينامية، ولا يتعين علينا استبعاد أي شيء. كل شيء ممكن إذا كان مفيدا من أجل تحقيق هذا الهدف».
وإذ كشف أن مقترح إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا كان موضع نقاش، حرص على تأكيد أنه «لم يقل أبدا أن فرنسا لا توافق على ذلك». لكنه عندما سئل مرة ثانية في المؤتمر الصحافي حول تفاصيل الموقف الفرنسي، احتمى وراء الحاجة للبقاء داخل إطار «الغموض الاستراتيجي». وقال ما حرفيته: «لن أتخلى عن الغموض بخصوص النقاشات التي حصلت هذا المساء ولن أذكر أسماء، وما أريد قوله أن هذه المسألة طرحت من جملة الخيارات» المتاحة.
وخلاصته: «لا شيء يجب أن يكون مستبعدا من أجل تحقيق هدفنا، وهو أن روسيا يجب ألا ولا تستطيع أن تربح هذه الحرب». وعاد الرئيس الفرنسي سنتين إلى الوراء للتذكير بأن كثيرين من القادة الغربيين كانوا يرفضون تزويد كييف بالدبابات والطائرات والصواريخ بعيدة المدى. إلا أنهم غيروا مواقفهم لاحقا، ملمحا إلى أن من يرفض نشر قوات غربية في أوكرانيا اليوم سيقبل غدا. لكن ما لم يشر إليه أن فرنسا كانت من أكثر الدول ترددا في إرسال أسلحتها إلى أوكرانيا وكانت تنهج خطا قريبا جدا من ألمانيا.
لتبرير موقفه، كشف ماكرون أن المجتمعين توافقوا على السير قدما في خمس نقاط رئيسية: الدفاع السيبراني لمواجهة الهجمات الروسية السيبرانية، الإنتاج المشترك لمنظومات السلاح والذخيرة في أوكرانيا نفسها، الدفاع عن الدول المهددة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، في إشارة إلى مولدافيا التي ليست عضوا في الحلف الأطلسي، وتوفير الدعم لأوكرانيا عند حدودها المشتركة مع بيلاروسيا ولكن من غير قوات عسكرية.
وأخيرا تكثيف عمليات نزع الألغام التي تركتها القوات الروسية وراءها. وبحسب الرئيس الفرنسي، فإن العمل بهذه النقاط «يفترض عدم استبعاد نشر مجموعات من العناصر (العسكرية) لتوفير الحماية لها». وصباح الثلاثاء، قال غبريال أتال، رئيس الحكومة الفرنسية في حديث إذاعي: «لا يمكن استبعاد أي شيء بالنسبة لحرب تدور في قلب أوروبا».
جدل في الداخل
لم يخف الرئيس الفرنسي وجود انقسامات داخل صفوف الغربيين بالنسبة لإرسال قوات إلى أوكرانيا. لكن الانقسامات موجودة داخل فرنسا نفسها. فقد سارع جان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد إلى مهاجمة ماكرون الذي وصف تصريحات الأخير بأنها «غير مسؤولة» وكتب في تغريدة على منصة «إكس» (تويتر سابقا): «إن إرسال قوات إلى أوكرانيا سيجعل منا مشاركين في الحرب، وهو بمثابة جنون، والتصعيد البلاغي العدواني من جانب دولة تتمتع بالقوة النووية ضد دولة نووية رئيسية يعد عملا غير مسؤول».
وأضاف ميلونشون أنه «يتعين على البرلمان أن يرفض (وأن يقول) لا للحرب، فقد حان الوقت للتفاوض حول السلام في أوكرانيا مع توفير ضمانات أمنية متبادلة». كذلك كتب الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفيه فور على المنصة نفسها للتنديد بـ«الخفة الرئاسية مبعث القلق». وإذ أعرب فور عن تأييده لدعم أوكرانيا، إلا أن «الدخول في حرب ضد روسيا وجر القارة (الأوروبية) وراءنا محض جنون». وبدورها لم تتأخر مارين لوبن، المرشحة الرئاسية السابقة وزعيمة حزب «التجمع الوطني» عن اتهام ماكرون بأنه «يريد أن يلعب دور القائد الحربي ولكن حياة أطفالنا هي التي يتحدث عنها بلا مبالاة. إنه السلام أو الحرب في بلادنا على المحك»، متسائلة عما إذا كان الجميع «يعون خطورة تصريحات» الرئيس الفرنسي. وفي السياق عينه، هاجم جوردان بارديلا، رئيس الحزب المذكور ماكرون، متهما إياه بأنه «يفقد رباطة جأشه» ومؤكدا أن دور فرنسا هو أن «تجسد التوازن» فيما «التهديد بإرسال قواتنا في مواجهة قوة نووية عمل خطير ومتهور».
رفض في الخارج وتهديد روسي
الانقسام الداخلي في فرنسا يوازيه انقسام خارجها. فقد أعلن رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك، بمناسبة اجتماع مع نظيره التشيكي بيتر فيالا، في براغ الثلاثاء، أن بلاده «لا تنوي نشر قواتها على التراب الأوكراني»، داعيا إلى «الامتناع عن التكهنات اليوم بشأن الظروف التي يمكن أن تقود إلى الإقدام على خطة كهذه». ومن جانبه قال فيالا: «أنا مقتنع بأن علينا الاستمرار في تطوير سبل الدعم (لأوكرانيا) منذ العدوان الروسي وأن لا حاجة لاستبدالها».
كما سارع وزير خارجية المجر إلى التأكيد أن بلاده «لا تخطط لإرسال أسلحة أو قوات إلى أوكرانيا». ومعروف أن سلوفاكيا تسير على النهج نفسه. غير أن الأهم من ذلك كله ما نقلته «رويترز» عن مصدر في البيت الأبيض ومفاده أنه لا الولايات المتحدة ولا الحلف الأطلسي ينويان إرسال قوات إلى أوكرانيا. وفي السياق نفسه، قال أولف كريسترسون، رئيس الوزراء السويدي الذي ستصبح بلاده قريبا جدا عضوا في الحلف المذكور، إن موضوع إرسال قوات إلى أوكرانيا «غير مطروح راهنا» وإن كييف «لا تطلب ذلك».
وبالفعل، فإن ميخايلو بودولياك، أحد مستشاري الرئيس الأوكراني، لم يأت على ذكر هذا الطلب، مكتفيا بالقول «إنه أولاً وقبل كل شيء، هذا يدل على وعي مطلق بالمخاطر التي تشكلها روسيا العسكرية والعدوانية على أوروبا».
بيد أن التحذير الأكبر جاء بطبيعة الحال من روسيا نفسها. إذ حذر الكرملين الثلاثاء من أن الصراع بين روسيا وحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة سيصبح حتميا إذا أرسلت الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف قوات للقتال في أوكرانيا. وردا على سؤال عن تصريحات ماكرون، قال دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين للصحافيين: «حقيقة مناقشة مدى إمكانية إرسال وحدات معينة من دول حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا هي عنصر جديد مهم جدا». كما قال ردا على سؤال عن مخاطر نشوب صراع مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي إذا أرسل أعضاء في الحلف قوات للقتال في أوكرانيا: «في هذه الحالة، لن نحتاج للحديث عن احتمال، وإنما عن حتمية (الصراع المباشر)».
وأعلن بيسكوف أن خطوة كهذه «لن تكون مطلقا في مصلحة هذه البلدان التي عليها أن تكون واعية لهذا الأمر». وأضاف: «نحن على علم تماما بمواقف ماكرون الذي يسعى لإنزال هزيمة استراتيجية بروسيا»، ملوحا بأن خطوة كهذه ستعني «بلا شك نزاعا {بين روسيا} والغرب».
وواضح أن ماكرون فتح بابا لجدل لن يغلق قريبا. وواضح أيضا أن ألمانيا ترفض السير فيه. والدليل على ذلك أن المستشار أولاف شولتس رفض الاثنين بشكل قاطع تزويد أوكرانيا بصواريخ «توروس» بالغة الدقة وبعيدة المدى، بعكس ما فعلته بريطانيا وفرنسا، متخوفا من أن تكون ألمانيا «منغمسة بشكل ما في الحرب»، ما يدل على أن برلين بعيدة لسنوات ضوئية عما يطرحه ماكرون. كذلك، فإن خطوة كالتي يطرحها ماكرون لا يمكن أن تحصل من غير ضوء أميركي وتوافق داخل الحلف الأطلسي. ولذا، لم يكن مستغربا أن تثير طروحاته هذا الجدل بسبب خطورة تبعاتها وما يمكن أن تفضي إليه من نزاع بين قوى نووية.
وأكد شولتس الثلاثاء أنه لن يتم إرسال «أي جندي» إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية أو الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. وقال خلال مؤتمر صحافي: «ما تم الاتفاق عليه منذ البداية ينطبق أيضا على المستقبل، وهو أنه لن تكون هناك قوات على الأراضي الأوكرانية مرسلة من الدول الأوروبية أو دول الناتو».
لا تختصر إشكالية إرسال القوة ما تم في اجتماع باريس الذي خلص إلى قرارات عملية منها إقامة تحالف جديد لتزويد أوكرانيا بـ«صواريخ وقنابل متوسطة وطويلة المدى لتنفيذ ضربات عميقة».
وقال ماكرون إن هناك «إجماعا واسعا على بذل المزيد بشكل أسرع»، مضيفا أن هناك إجماعا أيضا على زيادة الإنتاج المشترك للأسلحة مع أوكرانيا وتعزيز صناعتها العسكرية وتعزيز الدعم المالي لأوكرانيا. والتحالف الجديد ينضم إلى التحالفات الثمانية الموجودة والتي تندرج كلها في إطار «مجموعة رمشتاين» للدول الداعمة لكييف. وبحسب ماكرون، فإن مشكلة توفير قذائف المدفعية لأوكرانيا مرتبطة بعدم توافر البارود بكميات كافية.
كذلك برز توافق حول ما طرحته تشيكيا لجهة التوجه نحو الخارج لتوفير الذخائر وقذائف المدفعية، باعتبار أن الصناعات العسكرية الأوروبية لم تكن قادرة على الوفاء بتعهداتها لتزويد أوكرانيا بمليون قذيفة مدفعية بحلول شهر مارس (آذار). كذلك حصل نقاش بشأن اقتراح يقضي باستنساخ ما قام به الأوروبيون زمن وباء كوفيد بالقيام بمشتريات مشتركة من اللقاحات بتمويل أوروبي مشترك من خلال إصدار سندات أوروبية. وحتى لا تبقى التفاهمات مجرد وعود، فقد تم الاتفاق على أن يعمد وزيرا الدفاع والخارجية الفرنسيان إلى التواصل مع زملائهما في الدول التي حضرت الاجتماع من أجل التوصل إلى خلاصات عملية بشأن العمل على تنفيذ ما تقرر خلال عشرة أيام.