كتب “عماد الحطبة” : رفع أسعار المشتقات النفطية في الأردن، وإعلان سائقي الشاحنات إضرابهم المستمر منذ نحو أسبوعين، وامتداد الإضراب ليتحول إلى حالة شعبية، عبّرت عنها وقفات في أكثر من مدينة وبلدة أردنيتين، وبلغت ذروتها في إعلان بلدية الكرك الإضراب العام؛
مع هذا التصاعد في الأحداث، امتلأت الصحافة المحلية، الحكومية والمعارضة، بوصفات تساعد على الخروج من الأزمة الحالية. ارتكزت هذه الوصفات، من وجهة نظر المعارضة، على إلغاء الضريبة الخاصة على المحروقات أو تخفيضها، وارتكزت، من وجهة نظر الحكومة، على رفع أجور الشحن على نحو يتلاءم مع أسعار المشتقات النفطية، مع عدم إمكان التراجع عن الضريبة الخاصة على المحروقات، والتي تشكل نسبة مهمة (15%) من بند الإيرادات المحلية، في مشروع الموازنة العامة لعام 2022.
بين وجهتَي النظر يبدو أن الأزمة الاقتصادية في الأردن في حاجة إلى حلول أكثر نجاعة، تتراوح بين تهيئة البيئة الاستثمارية لجلب الاستثمارات الأجنبية، ووضع حلول لتخفيض تكلفة الإنتاج لتصبح البضائع الأردنية منافسة في الأسواق، وغيرهما من الحلول الاقتصادية. إلّا أن سؤالاً يدور في أوساط فئة محدودة جداً من المثقفين والسياسيين: هل الأزمة اقتصادية فعلاً؟
منذ عام 1988 والأردن يعيش أزمات اقتصادية متتالية، عبّرت عن نفسها في انتفاضة عام 1989، والتي أطلقها سائقو الشحن في منطقة معان، وامتدت إلى معظم المدن الأردنية، باستثناء العاصمة. لم تمتلك السلطة أي حلول في ظل هبوط قيمة الدينار، وتراكُم الديون بفعل النهج الاقتصادي الليبرالي الذي انتهجته. لذلك، لجأت إلى الحل السياسي. قامت السلطة الحاكمة بإلغاء الأحكام العرفية القائمة فعلياً منذ عام 1957، وسمحت بإنشاء الأحزاب، وأجرت انتخابات نيابية “معقولة”. نجحت هذه الإجراءات بامتصاص غضب الجماهير التي اعتقدت أن المستقبل سيحمل حكومات منتخبة “برلمانية” تكون مسؤولة أمام الشعب، فتعتدل الحال وتُحل الأزمات.
كانت الأزمة حافزاً لدول الخليج، التي زادت في مساعداتها الأردن. جاءت الحرب والحصار على العراق، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ليشكّلا مخرجاً للسلطة الأردنية. لقد تحوّل الأردن إلى ممر للتجارة في اتجاه العراق، في الفترة الممتدة من عام 1990 حتى عام 1995، وليتعاظم هذا الدور بعد قرار الأمم المتحدة الرقم 986، والذي سُمي “النفط في مقابل الغذاء”. وفي الوقت الذي عاش الاقتصاد الأردني بعض الانفراج، الأمر الذي وضع حداً للاحتجاجات الشعبية، كانت الحكومة ماضية في سياساتها الاقتصادية الليبرالية، والتي تمثّلت ببيع مؤسسات القطاع العام. وفي عام 1994، وضعت الحكومة قانون الضريبة العامة على المبيعات، والانسحاب بالتدريج من الدور الاجتماعي للدولة، والاكتفاء بأداء دور تنظيمي، فقامت ببيع حصتها في شركة مصانع الإسمنت عام 1998، وبدأت عام 1997 خصخصة قطاع الاتصالات، عبر تحويل مؤسسة الاتصالات السلكية واللاسلكية إلى شركة الاتصالات تمهيداً لبيعها. وألغت في عام 2002 مؤسسة التسويق الزراعي، وباعت نصيبها في شركة البوتاس عام 2003.
جاءت حرب الخليج الثانية لتوجه ضربة قاصمة إلى الاقتصاد الأردني بعد احتلال العراق، وتحويل موارده لمصلحة الشركات الأميركية الكبرى، وفي مقدمتها شركة KBR. تبيّنت هشاشة الاقتصاد الأردني الذي اكتفى، خلال فترة البحبوحة الاقتصادية المرتبطة بالأزمة العراقية، بأداء دور السمسار، من دون أن تنعكس فوائض القيمة عبر مشاريع إنتاجية صناعية أو زراعية، بل تحولت لمصلحة المركز الرأسمالي على شكل أرباح، أو ودائع في البنوك العادية والملاذات الآمنة، من دون أن ننسى الاستثمارات العقارية الضخمة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
في نيسان/أبريل 2008 توقفت الحكومة عن دعم أسعار المشتقات النفطية، وبدأت الأزمة تتعمّق، اقتصادياً واجتماعياً، داخل المجتمع، وبصورة خاصة في المحافظات التي شكلت تاريخياً القاعدة الشعبية للسلطة الحاكمة. وعبّرت هذه الأزمة عن نفسها في بيان أيار/مايو 2010، والذي أصدرته مجموعة من كبار ضباط الجيش المتقاعدين.
بغضّ النظر عن مضمون البيان، كان مجرد إصداره نقلة مهمة في عمل المعارضة الأردنية. مثل كل الشعوب العربية، خرج الشعب الأردني إلى الشوارع في إبّان ما سُمِّي “الربيع العربي”. لم تحتمل السلطة الحاكمة طويلاً، وخصوصاً بعد سقوط رؤوس الأنظمة في تونس ومصر. بادرت السلطة إلى تقديم حل سياسي مرة أخرى، تمثَّل بإقالة حكومة سمير الرفاعي، وإجراء تعديلات دستورية تنسجم إلى حد ما مع مطالب المعارضة.
مرت العاصفة، فسارعت السلطة إلى نقض جميع ما قامت به، فتراجعت عن التعديلات الدستورية، بل عدّلت الدستور مرتين محوّلةً البلاد إلى ملكية مطلقة. وشددت قبضتها الأمنية من خلال الاعتقالات ومطاردة السياسيين، حتى وصلت إلى وصفة لإعادة هندسة الحياة السياسية جعلت الأردن البلد الوحيد في العالم الذي تحدد فيه السلطة عدد منتسبي الحزب، وأعمار أعضائه، ونسبة النساء والشبان وذوي الاحتياجات الخاصة فيه، وتركيبة قيادته، وتركيبة قوائمه الانتخابية.
قامت السلطة بجميع هذه الخطوات منتشيةً بنصر لم تحققه، يتمثّل بعبور محطة “الربيع العربي” بسلام. لم يكن ذلك العبور مرتبطاً بحلول قدمتها السلطة الحاكمة إلى الشارع على المستويين الاقتصادي والسياسي، بما في ذلك الحلول القمعية. لقد عبر الأردن تلك المحطة لأن الإرادة الدولية، ممثَّلةً بالولايات المتحدة و”إسرائيل”، دعمت السلطة بسبب دورها المهم في أحداث “الربيع” المشؤوم، خصوصاً في الجبهة السورية.
الأزمة في الأردن ليست اقتصادية، بل هي أزمة سياسية بامتياز، وهي مرتبطة بخيارات السلطة الحاكمة السياسية، منذ التأسيس حتى اليوم.
تأسّس الأردن لأهداف تعاكس رغبات الأردنيين، فكان دولة لسلطة ذات دور وظيفي يتعلق بحماية المشروع الاستعماري في فلسطين، وليس كياناً لتحقيق أهداف الشعب الأردني وطموحاته. ارتباط السلطة بالمشروع الاستعماري سياسياً، ربطها بالمشروع نفسه اقتصادياً، وهو ما نجم عنه نهب مقدِّرات البلاد، وإنشاء اقتصاد خدمي تابع، وتدمير كل إمكانات الانتاج القائمة أو الممكنة. الخيار السياسي نفسه دفع السلطة نحو التماهي مع المشروع الصهيوني، فكانت اتفاقيات وادي عربة، والغاز، والماء في مقابل الكهرباء، وأخيراً إعلان المبادئ المتعلق بتحسين بيئة نهر الأردن والبحر، وعشرات الاتفاقيات الاخرى التي كبّلت القرار، سياسياً واقتصادياً، وجعلته في يد العدو. الخيار السياسي ذاته دفع الأردن إلى أداء دور سمسار الإرهاب في سوريا، وإغلاق الحدود، والامتثال الأعمى لـ”قانون قيصر”، وهو ما فاقم الأزمات اليومية التي يعانيها الاقتصاد الأردني، الذي كانت سوريا تشكّل منفذاً لكثير من منتوجاته، وخصوصاً الزراعية، بالإضافة إلى فقد الدخل المتأتي من تجارة الترانزيت في اتجاه دول الخليج. وأخيراً، تمنع الخيارات السياسية للسلطة من التوجه شرقاً، نحو إيران والصين وروسيا، بحثاً عن حلول للأزمات الاقتصادية المزمنة.
في المحصّلة، فإن كل أزمات الأردن مرتبطة بالخيارات والرهانات السياسية للسلطة الحاكمة، ولن يؤثر فيها الاستمرار أو الانفضاض لإضراب هنا وآخر هناك. الحل سياسي من دون شك، لكنّ السلطة غير قابلة، وقد تكون غير قادرة على تقديم هذا الحل. لذلك، فإن دوامة الأزمات في الأردن ليست مرشحة لحل قريب.