ماذا لو نجح اليسار في فرنسا؟
كتب عمر المرابط في صحيفة العربي الجديد.
بعد الهزيمة المدوّية التي حلت بالأغلبية الرئاسية في فرنسا في الانتخابات الأوروبية، اضطرّ الرئيس ماكرون لإعلان انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. وإذا كان بعضهم قد اعتبر القرار مخاطرة كبيرة وهدية لليمين المتطرّف، إذ تعطي نتائج الانتخابات الأوروبية واستطلاعات الرأي، “التجمّع الوطني”، اليميني المتطرّف الصدارة، فإن العارفين بالخبايا يدركون أن هذا القرار الذي أحيط بالكتمان قبل إعلانه جاء بعد طول تفكير داخل قصر الإليزيه، بالنظر إلى السيناريوهات فوق طاولة المشهد السياسي الفرنسي والتوقّعات المنتظرة. وبالنظر إلى أن الكتلة الرئاسية لا أغلبية لها في البرلمان الفرنسي بغرفتيه؛ ومن ثمّ فإن سيناريو إسقاط الحكومة عبر طرح ملتمس رقابة في الخريف المقبل كان وارداً جدّاً. ولكن ماكرون المعروف بزهوه بنفسه لم يكن ليرضى بإسقاط حكومته، فاتخذ قرار حل الجمعية الوطنية (الغرفة الأولى)، في ضربة استباقية تحافظ على ماء وجهه أولاً، وتظهره واثقا من نفسه يؤمن بالديمقراطية، ويرجع إلى الشعب، ويعطيه حرية الاختيار ثانياً، موقناً أن نتائج الانتخابات التشريعية ستكون لمصلحته مقابل خصومه السياسيين كما حصل في الانتخابات الرئاسية مرّتين، متحدّيا في الوقت نفسه، أبناء الشعب الفرنسي، وكأنه يقول لهم “ما أُريكُم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وما علمتُ لكم من رئيس غيري، وأنا مُنقذكم من المتطرّفين من كل جانب”.
كانت استراتيجية الرئيس ماكرون تقوم ولا تزال على إضعاف (بل تفكيك) الأحزاب العريقة التي حكمت البلاد، مثل “الجمهوريون” اليميني أو “الاشتراكي”، ليبقى وحيدا أمام اليسار الراديكالي، وأهم مكوناته حزب فرنسا الأبية، وخصوصاً مقابل حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، الذي يتقوّى كل يوم، وأصبح أول حزبٍ في البلاد بما يناهز ثلث الأصوات وقاعدة شعبية تصل إلى 40% إذا أخذنا الأحزاب اليمينية المتطرّفة الأخرى.
ولكن هذه الاستراتيجية التي دأب عليها ماكرون منذ 2016، ونجحت في إيصاله إلى الرئاسة عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة، بل يمكننا القول إن نجم الرئيس ماكرون قد أفل فعلاً، إذ لا أحد بات يصدّق رئيسا يلقي الكلام على عواهنه من دون تفكير ورويّة، وأصبح عالة على أصحابه ومرشّحي حزبه، بلغ حدّ رفض وضع صورته على الملصقات الإشهارية الانتخابية كما العادة، ومطالبته بالالتزام بالصمت والابتعاد عن الانخراط في الحملة. … بالرغم من هذا كله، لا يزال الرجل يعتقد أن في استطاعته إعادة تحقيق نجاحاته السابقة من دون أن يدرك أن الشعب قد فطن، وأن الأسلوب قد بلي، وأن الخطط قد انفضحت.
من المرتقب أن يُهزم المعسكر الرئاسي شرّ هزيمة في الانتخابات المبكّرة
بنى ماكرون سرديته على نظرية تقول بإمكانية الجمع بين وسط اليمين ووسط اليسار، مع الانفتاح على الكفاءات السياسية لطرفي نقيض. وهكذا نجح مرّتين في الرئاسيات في مواجهة زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان. ومع مرور الزمن، تبين له أن الذين على يمينه أقوى عدّة وعتادا ممن على يساره، سيما مع امتلاكهم إمبراطوريات إعلامية، منها القنوات الإخبارية الخاصة الثلاث، والتي تصنّف على اليمين المتشدّد، وتقوم بالتعبئة والحشد للمرشّحين من أقصى اليمين، بل من اليمين المتشدّد، فحذا حذوهم وسلك سياسة متشدّدة في الملفات التي تعدّ بؤرة نجاح المتطرّفين، وسن قوانين قاسية في مواضيع الهجرة والعلمانية وأخرى جدّ متشدّدة تجاه المسلمين، ظنّا منه أن هذا سيكفي لإنجاحه، لكن هيهات هيهات.
من المرتقب أن يُهزم المعسكر الرئاسي شرّ هزيمة في الانتخابات المبكّرة: أولاً، لأن فزّاعة اليمين المتطرف لم تعُد تخيف ولا تجدي، وأصبح التهجّم على فئات من المواطنين الفرنسيين أمراً عادياً، أضف إلى هذا دور الإعلام الذي جعل فرنسيين كثيرين يعتقدون أن زعيمة “التجمّع الوطني”، مارين لوبان، نجحت في تنعيم صورة حزبها، وتليين مواقفه في قضايا عديدة، كانت تعتبر خطّاً أحمر، مثل معاداة السامية أو الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. علاوة على هذا، أظهر رئيس الحزب ومرشّحه لرئاسة الحكومة، جوردان بارديلا، مرونةً إن لم نقل تراجعاً في مواقف كثيرة له، آملاً بذلك توسيع قاعدته الانتخابية، والطمع في الحصول على الأغلبية المطلقة، حتى غدا يطمح ويطمع في جلب جزءٍ من الصوت المسلم معلناً عن إرجاء البتّ في قضية حظر الحجاب في الأماكن العامة، لأنها ليست ذات أولوية آنية.
ثانيا وهذا هو الأهم، قدرة المعارضة على الاتحاد في ما بينها؛ فمن جهة عقد “التجمّع الوطني” تحالفا مع رئيس حزب الجمهوريين، متوّجا بذلك سنوات من التقارب الأيديولوجي بين الحزبين، ومختلقاً، في الوقت نفسه، أزمة داخل هذا الحزب، ثم تحالفا آخر مع أعضاء قياديين في حزب “الاسترداد” بزعامة العنصري إيريك زمور الذي طردهم احتجاجا على إقصائه من الاتفاق، ما يعطي لهذه الكتلة المتطرّفة أكبر الحظوظ للفوز تبعا للنتائج الأوروبية أخيراً.
استطاعت الجبهة الشعبية الجديدة إحداث ديناميكية انتخابية قوية دفعت بها إلى الصدارة
وقد حصلت مفاجأة كبرى غيّرت المواقع، وأحدثت زلزالا في المشهد السياسي، وأرجعت الكتلة الرئاسية إلى الوراء، حيث شكل اليسار قاطبة تحالفاً عريضاً من وسط اليسار إلى أقصاه، سميت باسم “الجبهة الشعبية الجديدة”، تضم داخلها أحزابا وشخصيات لا يجمع بينها إلا الرغبة في منع وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة وحرمان ماكرون من الفوز مهما كان.
على الرغم من الاتهامات المغرضة لهذه الجبهة بالتطرّف ومعاداة السامية، باعتبار موقف أكبر أحزابها “فرنسا الأبية” من القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزّة، فإنها استطاعت في ظرف وجيز التوصل إلى اتفاق تاريخي، سمح بتشكيل أقوى التحالفات خبرة وكفاءة، الذي يضم مرشّحين ذوي تجربة سياسية عالية، مثل الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند الذي فاجأ الجميع بترشّحه، وأغضب الدوائر الصهيونية كون انضمامه إلى الجبهة ينفي عنها تهمة معاداة السامية التي أشعل فتيلها الرئيس ماكرون.
أكثر من هذا، استطاعت الجبهة الشعبية الجديدة إحداث ديناميكية انتخابية قوية دفعت بها إلى الصدارة، حيث تفيد استطلاعات الرأي عند كتابة هذه السطور بإمكانية حصولها على حوالي 29% بنقطة وراء “التجمّع الوطني”؛ أما ماكرون فلا يدري هل سيأكل عن يمينه أم عن يساره، واقترب انفراط عقده وانقطاع رحلته، فمثله كمثل المُنْبَتّ لا أرضا قطع ولا حزبا أبقى.