ماذا حدث في البيت الأبيض؟ ولماذا؟

كتبت د. آمال مدللي, في “الشرق الأوسط” :
لقاء المكتب البيضاوي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كان تاريخياً بكل المقاييس. الاجتماع نقلَ المواجهةَ الأميركية – الأوروبية حول الحرب في أوكرانيا وحلها، التي ظهرت إلى العلن في مؤتمر الأمن في ميونيخ بألمانيا الشهر الماضي لأول مرة، إلى مستوى غير مسبوق. الشرخ الآن واضح وعميق، وربَّما يصبح دائماً إذا لم يعالَج بسرعة وبحكمة. أوروبا قالت في اليومين الأخيرين إنَّها مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وليست مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في كيفية حل الأزمة الأوكرانية وإنهاء الحرب. ولكن أوروبا تعرف أنَّه من دون أميركا فإنَّ الانتصار في الحرب مستحيل، كما أنَّ تحقيق السلام غير ممكن.
ولكن الرئيس ترمب على حق. هذه الحرب يجب أن تنتهي. والمطلب الأوكراني والأوروبي الانتظار سنةً أخرى لكي تغيِّر أوكرانيا ميزان القوى لصالحها والتفاوض من موقع قوة، أمر غير واقعي، وتمديدٌ لحرب لا أحد يعرف كيف تنتهي. الذي جرى في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض كان متوقَّعاً، ولكن الذي لم يكن متوقعاً أن يحوِّله الرئيس ترمب إلى تلفزيون الواقع فيعرض على الملأ مواجهة تتم المحافظة عليها خلف الأبواب الدبلوماسية المغلقة، ويقوم البيان الختامي بوضع القناع الدبلوماسي عليها فتبقى أبواب العودة مفتوحة للطرفين. الذي حصل كان طلاقاً على أسنَّة الرماح إلا إذا تراجع أحد الطرفين.
زيلينسكي أتى إلى واشنطن وهو على يقين من الموقف الأميركي. الرئيس ترمب يقول منذ سنتين إنه إذا انتُخب رئيساً سوف يوقف الحرب الأوكرانية في أول يوم. وهو ومؤيدوه ضد الاستمرار في فتح حنفية المساعدات العسكرية والمال بغير حساب لأوكرانيا. خلال الحملة الانتخابية كان إنهاء الحرب في قائمة وعوده الانتخابية.
يجب ألا يُفاجأ الرئيس زيلينسكي من أن يفي الرئيس ترمب بوعده، خصوصاً أن زيلينسكي ارتكب غلطة سياسية مميتة خلال حملة ترمب الانتخابية حينما ذهب في سبتمبر (أيلول) الماضي إلى ولاية بنسلفانيا، الولاية الأهم التي حددت مصير الانتخابات، ورافق حاكم الولاية الديمقراطي المقرَّب من الرئيس بايدن ونائبته المرشحة الديمقراطية ضد ترمب كامالا هاريس، في جولةٍ على مصنع سلاح وظّفها الديمقراطيون لصالحهم، والتقط مع الحاكم جوش شابيرو الصور، وألقى بتصريحات خلال زيارته يستبعد فيها أن يتمكن ترمب من إنهاء الحرب. أغضب تصرف زيلينسكي هذا الرئيس ترمب واستخدم ابن ترمب منصة «إكس» ليهاجم الرئيس الأوكراني على فعلته. والذي استمع إلى المواجهة في البيت الأبيض، لا شك سمع نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، يتهم زيلينسكي بوقوفه ضد ترمب خلال الحملة الانتخابية.
فما الذي حدث في البيت الأبيض؟ ولماذا حدث؟ كان واضحاً من مشاهدة الفيلم كاملاً، وليس فقط الدقائق القليلة في النهاية التي هزَّت العالم وقسمته إلى مُعادٍ لترمب ومؤيِّد لزيلينسكي، أو العكس، أن ترمب والرئيس الأوكراني لم يكونا يقرآن من نفس الصفحة، وأن زيلينسكي كان غاضباً ومتوتراً منذ اللحظة الأولى للاجتماع. وبينما كان ترمب يشدد على الصفقة التي سيعقدها مع أوكرانيا ويحصل على موارد الأرض النادرة من أوكرانيا، ويرى أن التوقيع على الصفقة تحصيل حاصل قبل الغداء، كان زيلينسكي يركز على الحصول على ضمانات أمنية «وأن أعتمد عليك لوقف بوتين، لأنه قاتل وإرهابي، ولا مساومة مع قاتل»، كما قال للرئيس ترمب. أما الرئيس ترمب فاختلف معه قائلاً: «عليك أن تتنازل لعقد صفقة. أنا وسيط بين الطرفين. آمل أن يتذكروني على أنني صانع سلام. نريد أن نُنهي هذا الأمر بسرعة ولا أريد أن أتحدث عن ضمانات أمنية الآن. أريد أن أنهي الصفقة. الضمانات الأمنية هي الجزء السهل».
كان واضحاً أيضاً أنهما لا يتفقان على وقف إطلاق النار. فبينما أصر زيلينسكي على أنه «لا يمكن فقط الحديث عن وقف النار لأن بوتين خرق وقف النار 25 مرة»، وعلى ضرورة وجود ضمانات أمنية لأن بوتين «يريد قتلنا»، وأن «هذه الوثيقة لن توقفه»، أكد ترمب أنه يقف في الوسط بين الطرفين وأنه يريد الصفقة لأنه يريد السلام، ملاحظاً أن زيلينسكي «لديه كراهية شديدة لبوتين». وكان واضحاً حتى هذه النقطة أن ترمب ومساعديه قد أصبحوا مقتنعين بأن زيلينسكي لن يكون شريكاً في صنع السلام الذي يرتِّبونه مع بوتين. وهنا تدخل نائب الرئيس فانس ليؤكد أن الطريق إلى السلام هو عبر الانخراط في الدبلوماسية، وأن ما يجعل أميركا جيدة هو انخراطها في الدبلوماسية. هنا بدأت المواجهة، عندما سأله زيلينسكي: «عن أي دبلوماسية تتحدث؟».
مداخلة الرئيس الأوكراني التي بدا فيها يوبِّخ الجانب الأميركي ويُحذِّره من أن المحيط لن يحميه مما يحدث يوماً وأن هذا سيغيِّر شعوره حول ما يجري، أثارت غضب الرئيس ترمب الذي واجه زيلينسكي بأهم تخوف لديه من استمرار الحرب، قائلاً له: «إنك تقول لنا: لا أريد وقفاً لإطلاق النار… إنك تقامر بحرب عالمية ثالثة».
الواقع أن اتساع هذه الحرب أصبح تهديداً حقيقياً في السنة الأخيرة، ولم تعد حرباً كبرى يجري فيها استخدام جميع الأسلحة بما فيها النووية، مستبعدةً، ومع ذلك أُقفل باب الدبلوماسية إقفالاً كاملاً خلال عهد بايدن، حيث أوقف كل اتصال بالكرملين، ووصل الشلل الدبلوماسي إلى الأمم المتحدة فشلَّ مجلس الأمن وهدَّد الأمن والسلم الدوليين وأصبح الحديث عن حل سلمي محظوراً. انتخاب الرئيس ترمب فتح نافذة في جدار هذه الحرب لبدء الحديث والعمل على حل. الآن تقف الحرب على مفترق طرق. الرئيس ترمب دعا زيلينسكي إلى أن يغيِّر سلوكه. السيناتور ليندسي غراهام قال إنه يجب تغيير زيلينسكي نفسه، فربما الذي خاض الحرب ليس المناسب لخوض طريق السلام. فالرئيس ترمب قال في تغريدة بعد الاجتماع، إن زيلينسكي «ليس جاهزاً للسلام، إذا كانت أميركا منخرطة في العملية، لأنه يشعر بأن انخراطنا يعطيه الأفضلية في المفاوضات، أنا لا أريد الأفضلية، أريد السلام». ورمى ترمب الكرة في ملعب الرئيس الأوكراني قائلاً: «يمكنك العودة عندما تصبح جاهزاً للسلام»، ولكن إذا عاد فسيعود بشروط الرئيس ترمب. السؤال لأوروبا ولزيلينسكي: هل أنتم مستعدون لإنهاء الحرب، وإن كان ذلك بصفقة ترمب، أم أنكم ستستمرون وحيدين مع ما يمثله ذلك من تدمير للأواصر الأطلسية وللشراكة التاريخية؟