صدى المجتمع

ماذا تعرف عن “متلازمة الدجال” وهل تعاني منها؟

لم يتغلب مايكل باركنسون، مقدم البرامج الحوارية الراحل ذو الشهرة الأسطورية، إطلاقاً على “متلازمة الدجال” [الافتقار إلى الثقة بالنفس والقلق والشكوك حول أفكارك وقدراتك وإنجازاتك والتحدث السلبي عن النفس، وعدم الشعور بالرضا بما يكفي]، حسبما قال ابنه. ليس عندما أجرى مقابلة مع [المغني البريطاني الشهير] ديفيد بوي، ولا [الممثلة الأميركية الشهيرة] لورين باكال، ولا حتى “بوش وبيكس” [ديفيد بيكهام وزوجته فيكتوريا]. كان باركي [باركنسون] مشهوراً جداً إلى درجة أنه أصبح في نهاية المطاف وجهاً مألوفاً لدى البريطانيين على نطاق واسع وهو بدا بناءً على المقابلات الأكثر إثارة للجدل شخصاً مغروراً أكثر منه شخصاً يحس بانعدام الثقة. هل يمكن أن يشعر الشخص الذي تحدث بشكل بعيد من الرسمية مع محمد علي [كلاي] بانزعاج بسبب شعور عدم الانتماء [إلى هذه المجموعة من الناس]؟ على ما يبدو، نعم.

وقال ابنه مايك لراديو 4 التابع لـ”هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي)، بعد وفاته عن عمر يناهز 88 سنة في وقت سابق من هذا الشهر، إنه “كان يدرك تماماً أنه كان مع أشخاص شعر بأنهم أكثر ذكاءً منه، حتى إنهم نالوا قسطاً من العلم أكبر من الذي ناله”. وأضاف “لقد كان رجلاً يشكك في نفسه باستمرار ولم يكن لديه القدر من الثقة بالنفس ذاته الذي بدا [أنه كان يتمتع به] على شاشة التلفزيون”.

كان باركنسون طفلاً ترعرع في مجمع مساكن شعبية تابعة للمجلس البلدي في مقاطعة ويست يوركشير. وهو أحد المستفيدين من حملة الارتقاء إلى مستويات أعلى بعد الحرب التي وفرت إمكان الوصول والفرص والتعليم في المدراس الثانوية الحكومية للأطفال الأذكياء أو المحظوظين بما يكفي، لاجتياز اختبار الـ “11-بلس” [امتحان تنافسي لسبر كفاءات الطلاب في الصف السادس]. لقد كان نظاماً غير كامل، وعلى رغم إيجابياته الكثيرة فقد خذل عدداً من أطفال الطبقة العاملة.

فمقابل كل من [واحد من المشاهير مثل] ميلفين براغ أو أندرو نيل أو دينيس بوتر، ممن جاؤوا من خلفيات طبقة عاملة وبرزوا بسرعة عبر نظام المدارس الثانوية الخاص المعروف بمدارس القواعد (غرامر سكولز) grammar school system [مدارس ثانوية تمولها الحكومة وهي الوحيدة التي يُسمح لها باختيار جميع تلاميذها على أساس القدرة الأكاديمية والموهبة والذكاء]، كان هناك آلاف الأطفال الذين تضاءلت فرصهم في تحقيق إمكاناتهم بسبب إرسالهم إلى المدارس الثانوية الحديثة Secondary Modern schools، حيث وُصم الأشخاص الذين فشلوا في تجاوز اختبار الـ “11-بلس” سلفاً بأنهم طلاب “ليسوا جيدين بما فيه الكفاية”. كان باركي يمثل واحدة من قصص نجاح النظام، في الأقل، إذ استمتع بالثمار التي وفرها له. وحملته ثانوية بارنسلي القائمة على نظام مدارس القواعد إلى [العمل في] الصحف المحلية التي حملته بدورها إلى صحيفة “مانشستر غارديان” وتلفزيون غرناطة. تتمة الحكاية أصبحت من التاريخ. ومع ذلك، لم يضع حداً لمونولوغه الداخلي المدمر للذات على الإطلاق.

و”متلازمة الدجال”، بالنسبة إلى من لا يعرفونها، مصطلح عام لنوع من انعدام الثقة الشامل، أو الشعور بأن نجاحاتك إما غير مكتسبة [عن جدارة] أو هي مخادعة بطبيعتها. أو أنه لا ينبغي عليك أن تحاول القيام بشيء ما، فقط لئلا يقع خطأ ويؤدي إلى نتائج سيئة، وأنت مقتنع بأنه سيقع. وأشار استطلاع للرأي أجرته شركة “يوغوف” عام 2022 إلى أن ما يقرب من نصف سكان المملكة المتحدة (47 في المئة) يتعاطفون على مستوى ما مع أعراض المتلازمة، بدءاً من مواجهة صعوبة في قبول الثناء والتقليل من أهمية إنجازاتك الخاصة، إلى الشعور براحة أكبر في انتقاد نفسك بدلاً من انتقاد الآخرين.

ويعود ظهور هذا المصطلح لسبعينيات القرن الماضي، عندما قررت بولين كلانس وسوزان آيمز، وهما أستاذتان مساعدتان في كلية أوبرلين في ولاية أوهايو، التحقيق في ما بدا وكأنه ظاهرة منتشرة على نطاق واسع: النساء اللواتي يسيطر عليهن شعور بالدونية الفطرية، تجاربهن في مكان العمل وفي المجتمع برمته (كل شيء بدءاً من الأحاديث الصغيرة إلى العلاقات الشخصية) كانت تحدد من خلال نوع من التخريب الذاتي الذي يجب [السعي إلى ضبطه] باستمرار.

اتسع نطاق “ظاهرة الدجال” التي عرّفتها كلانس وآيمز على مدى عقود من الزمن، إذ تبين أن الرجال يواجهون هذه التجربة أيضاً، وإن لم يكن بالحدة ذاتها في كثير من الأحيان. ومن ثم بدا أن الجميع على الإنترنت يصرون على إصابتهم بها أيضاً. وأصبحت اليوم “متلازمة الدجال” منتشرة في كل مكان، إلى حد كبير على غرار كل النتف المبهمة قليلاً من علم النفس الرائج التي تشخص بشكل ذاتي ويجري تضخيمها من خلال مقاطع “تيك توك” التي سرت سريان النار في الهشيم ومقابلات المشاهير الزائفة.

بين عدد كبير من المشاهير الذين وصفوا تعرضهم لنوبات من “ظاهرة الدجال” كيم كارداشيان وإيما واتسون وتوم هانكس وأندرو غارفيلد. وقال بعضهم إن نجاحاتهم المهنية الهائلة طغى عليها شعور بأنهم لم يصلوا إلى ما بلغوه إلا من خلال مصادفات حالفهم الحظ فيها أو بسبب حيل معينة. أو أن الجميع يعتقدون سراً بأنهم لا يجيدون أداء وظائفهم. أو أنهم لا يشعرون بالراحة لأنهم في مركز الاهتمام. أو توليفة مختلفة من الأسباب أعلاه.

ويفسر هذا الغموض إلى درجة ما رواج “متلازمة الدجال”. إنه مصطلح بمنزلة المظلة الشاملة لأي نوع من الشك الذاتي، سواء كان حقيقياً أو وهمياً. تحت مصطلح “متلازمة الدجال” نجد ميشيل أوباما التي تعاني كونها امرأة سوداء تخطو خطواتها الأولى في أرض بيضاء تاريخياً، ونرى [عارضة الأزياء] بيلا حديد التي تعاني بدورها لأنها تخشى من أن الناس يعتقدون بأن مسيرتها المهنية في عرض الأزياء جاءت نتيجة للمحسوبية. إنه مصطلح يؤدي في بعض الأحيان إلى تبسيط الفروق الدقيقة ويجازف بجعل بعض أعراضه تبدو وكأنها زائفة إلى حد ما.

غير أن “متلازمة الدجال” ليست زائفة. لقد شوهت قليلاً مع مرور الوقت. هناك تداخلات عدة تجعلك تشعر بأنك دجال، سواء كان ذلك بسبب لون بشرتك أو جنسك أو حياتك الجنسية. الطبقية هي أيضاً مشكلة كبيرة. على رغم الأدلة التي ظهرت على امتداد عقود من الزمن وتشير إلى العكس، لا يزال كثيرون منا يميلون إلى الاعتقاد بأن الفخامة و/أو التحدث بطريقة الملك، هما رمزان للتحلي بالمسؤولية والجدية وأن أولئك الذين يجسدون كل ذلك هم بالفطرة جديرون بالثقة. إن عدداً من الأشخاص الذين ولدوا في [عائلة تتمتع بـ] الثروة والنفوذ نشأوا على فن التحدث المفيد إلى الآخرين بشكل لا يصدق، مما يعني أن لديهم القدرة على التفاعل مع الآخرين وكسب تأييدهم على نحو طبيعي تماماً، إن ذلك هو أمر إيجابي يعزز الوضع الجيد سلفاً.

لا عجب إذاً بالطبع أن شخصاً مثل باركنسون لم يتمكن إطلاقاً من التغلب على هذا النوع من المشاعر. إنها متأصلة في نسيج المجتمع. وبالمقارنة مع الأفراد الذين لم يتعرفوا إلا على أشخاص ناجحين آخرين، فإن أولئك الذين يتغلبون على الصعاب سوف يكافحون للتعامل مع حداثة الأمر التامة [وكونه غير مألوف]. لماذا أنت؟ ولماذا الآن؟ كم من الوقت سيمر قبل أن يُكشف أمرك؟

إلا أن المشكلة هنا هي كيفية النظر إلى أولئك الذين يعانون “متلازمة الدجال” ممن يفيضون سلفاً بالثروة أو الجمال أو أي من الامتيازات الاجتماعية التي تعتبر إيجابية مئة في المئة عندما يتعلق الأمر بالحياة. أندرو غارفيلد، الوسيم ذو الجسم الرياضي الذي تلقى تعليماً خاصاً، يزعم أن صوته الداخلي يقول له قبل كل اختبار تمثيل “استسلم” لأنه “لا شيء [عندك] لتقدمه”. فكيف لنا أن نتعامل مع هذه المعلومات؟

إن هذا يجعلني أتساءل عما إذا كنا ننظر إلى ذلك كله بشكل خاطئ، ربما. إذا لم تكن عارفاً بأن [لديك] قليلاً من كراهية الذات، أو الشعور بأنك خدعت أي شخص منحك فرصة أو قال إنك أبليت بلاءً حسناً، ألا يعني هذا أن لديك اعتلالاً اجتماعياً؟ أليس من الأفضل لك أن تشعر بقدر كبير من القلق بدلاً من أن يكون من الممكن استبدالك بشخص أحمق مفرط في ثقته بنفسه في برنامج “ذا أبرينتيس”؟ ألا تفضل أن تكون بيلا حديد بدلاً من أندرو تيت [مؤثر متهم بالاتجار بالبشر وقضايا اغتصاب] الذي يحترف التبجح؟

هناك بالطبع أشخاص يعانون حالات شديدة بشكل لا يصدق من “متلازمة الدجال” التي لا يكون التغلب عليها أمراً صعباً بقدر ما هي شيء يلحق [بالمرء] أذى عميقاً. (فكر في الأمر على أنه يشبه اضطراب الوسواس القهري، فتوجد فجوة هائلة بين أعراض مثل “أحب أن أضع زجاجات الجعة الخاصة بي في صف أنيق” و”إذا لم أُقفل، وأفتح ثم أُقفل مرة أخرى الباب الأمامي لبيتي، ستموت عائلتي) ولكن بالنسبة إلى معظمنا، فإن الأمر يكون من النوع المذكور أولاً، أي إزعاج يأتي ويذهب على شكل موجات، مما يعني أنه يمكنك أن تشعر بأنك الشخص الأكثر روعة وجاذبية والأوفر موهبة بين من حولك في يوم بعينه، وأن تحس في اليوم التالي أنك قزم عادي.

يشبه هذا النوع من “متلازمة الدجال” الحياة الحديثة، فهو عبارة عن دورة متكررة من الفرح والرضا والبؤس الشديد. ولكن على رغم أن متلازمة الدجال قد تكون محبطة في كثير من الأحيان، وعلى رغم القدر الكبير من الإرهاق الناجم عنها، فإنني ما زلت أعتقد بأنني أفضل قضاء الوقت مع باركي في يوم سيئ بدلاً من أن أكون مع شخص مليء بإحساس غريب وثابت من الثقة بالنفس. من النادر العثور عليهم وينبغي تجنبهم بأي ثمن بمجرد أن تجدهم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى