رأي

ماذا تريد بعض وسائل الإعلام من أسواق النفط؟

كتب أنس بن فيصل الحجي في صحيفة إندبندنت عربية.

متابعة دقيقة لبعض وسائل الإعلام، بخاصة “بلومبيرغ”، توضح أن هناك اتجاهاً عاماً لدعم سياسات الرئيس جو بايدن وإبراز نجاحها بغض النظر عن الحقيقة، بخاصة في ما يتعلق بالعقوبات والسقوف السعرية على النفط الروسي. وهناك اتجاه آخر لإبراز نجاحات الحكومة الهندية الحالية، وتغطية “مظلوميتها” إعلامياً في كل شيء، بما في ذلك النفط والغاز المسال، بغض النظر عن الواقع. وهناك اتجاه ثالث يقوم بإلقاء اللوم على “أوبك” والسعودية، كل ما ضرب الكوز بالجرة، وبغض النظر عن الواقع والحقيقة. وبغض النظر عما قاله مسؤولو “أوبك” في مقابلاتهم مع قناة “بلومبيرغ”. وهناك اتجاه رابع يبالغ في آثار الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية في الطلب على النفط والغاز. أما الاتجاه الخامس فهو المبالغة في أثر هجمات المسيرات الأوكرانية على المصافي الروسية.

سياسات بايدن والعقوبات والسقوف السعرية

فشلت العقوبات الغربية في إجبار روسيا على سحب قواتها من أوكرانيا، كما فشلت في تغيير الموقف الروسي. التغييرات التي شهدناها تتمثل في تغير اتجاهات النفط والغاز العالمية، ولكن انخفاض الإنتاج الروسي والصادرات الروسية كان بسيطاً، وأقل من 10 في المئة مما كان متوقعاً، حتى من توقع وكالة الطاقة الدولية. الأسقف السعرية لا أثر لها على الإطلاق. أسعار النفط الروسي أعلى من السقف السعري (60 دولاراً للبرميل) بمبلغ كبير، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتغاضون عن ذلك تماماً. ولكن بعض وسائل الإعلام تتحدث وكأن هذه السياسات ستفلس روسيا غداً. عندما انخفضت إيرادات النفط الروسية قالوا بأن السبب هو نجاح سياسات بايدن، ولكن الحقيقة أن الانخفاض كان نتيجة هبوط عالمي في أسعار النفط وأي طالب ثانوي يستطيع أن يستنتج أن الفارق بين سعر الخام الروسي والسعر العالمي هو فارق تكاليف الشحن. وها هي إيرادات النفط الروسية ترتفع، فبدأوا بلوم شركات الشحن اليونانية لمساعدتها روسيا، مع أن أكبر متاجر بالنفط الروسي هو شركات أوروبية أو موجودة في آسيا ويديرها أوروبيون. والأنكى من ذلك كله أنه على رغم العقوبات وعلى رغم الأسقف السعرية، إلا أن النفط الروسي يصل إلى أوروبا والولايات المتحدة بشكل شبه يومي، وذلك لأن هذه الدول أقرت من خلال العقوبات والسقف السعرية أنه يمكنها استيراد النفط الروسي من طرف ثالث إذا تم تكرير النفط عند الطرف الثالث. لماذا تتجاهل وسائل الإعلام هذه الحقيقة؟
وتتجاهل وسائل الإعلام حقيقة أن 15 في المئة من المفاعلات النووية الأميركية ما زالت تستخدم اليورانيوم المخصب الذي يستورد من روسيا باستمرار حتى يومنا هذا على رغم العقوبات على روسيا.

الحكومة الهندية والنفط الروسي

مع اقتراب موعد الانتخابات في الهند، بدأ المسؤولون الهنود يتكلمون عن “تنويع مصادر النفط” بعيداً من روسيا وضرورة شرائه من دول أخرى بما في ذلك دول الخليج والولايات المتحدة. جاء ذلك بعد مشكلات عدة مع الروس، الذين رفضوا أخذ الروبية الهندية المتهاوية ثمناً للنفط. وحاول الهنود الضغط على روسيا ظناً منهم أنها في مأزق ويستطيعون التحكم بها، ويبدو أنهم لم يدرسوا نفسية الروس وتاريخهم. فشلت محاولات الهند حتى عندما رفضوا استخدام أكثر من 12 حاملة نفط محملة بنفط سوكول الروسي. هنا ركزت بلومبيرغ وغيرها على الموضوع بشكل يشيد بالحكومة الهندية من جهة، وبشكل يفيد بأن الحكومة الهندية تمتثل للعقوبات والسقوف السعرية، ومن ثم فإن الهند “مظلومة” من كل الجهات. وتم التشديد على فكرة انهيار واردات الهند من روسيا. 
ولكن الحقيقة غير ذلك على الإطلاق، فقد زادت واردات الهند من روسيا في تلك الفترة، ووصلت إلى مليوني برميل يومياً، إلا أنهم غيروا نوعية النفط المستورد. وسبب عدم السماح لنحو 12 ناقلة روسية محملة بنفط “سوكول” لا علاقة له بالسقف السعري كما ذكرت وسائل الإعلام، ولا علاقة له بحاملة معينة مذكورة في لائحة المقاطعة الأميركية، السبب هو خلاف بين شركة هندية وشركة النفط الروسية حول عقد وقِّع في عام 2020. وفقاً لهذا العقد فإن الأسعار في الشهور الماضية كانت عالية، وأعلى من سعر النفط الروسي الذي يباع في الأسواق الفورية. طالبت الشركة الهندية بتغيير العقد، فرفضت الشركة الروسية. على إثر ذلك اشترت الشركة الهندية أنواعاً أخرى من النفط الروسي من السوق الفورية وتجاهلت العقد. بعدها اشترت الشركات الصينية هذه الحمولات بأسعار مخفضة.

وحاولت وسائل الإعلام الترويج لنجاح سياسة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بتبني الروبية في المدفوعات، ولكن الواقع أن المدفوعات كانت باليوان الصيني والدولار الأميركي والدرهم الإماراتي، لأن لا أحد يريد أخذ عملة تنخفض قيمتها، حيث وصلت الروبية مقابل الدولار إلى أدنى مستوى لها في التاريخ في الأسابيع الأخيرة.
وحاولت وسائل الإعلام تلميع فكرة تنويع الواردات النفطية من الخليج والولايات المتحدة وفنزويلا، ولكن كمية المشتريات كانت قليلة جداً ولا تكاد تصل إلى 10 في المئة من مشتريات النفط الروسي على أساس شهري.
أما لوم “أوبك” والسعودية فقد أصبح ديدنهم على رغم تعارض ما يقولون مع الحقيقة. وفي الوقت الذي كانوا يتهمون به دول “أوبك” بالجشع، كانوا يتفاخرون بأرباح بيوت التجارة العالمية التي تتاجر بالنفط، والتي تجاوزت إيرادات العديد من دول “أوبك”، والذين هم أصحاب النفط، وفي الوقت الذي يتهمون فيه دول “أوبك” بالجشع بسبب أسعار النفط في الثمانينيات، ارتفعت أسعار الكاكاو والذهب إلى مستويات قياسية، وارتفعت أسعار النحاس إلى مستويات قريبة من القياسية، ولم يصفوا الدول المنتجة بالجشع!
أما في ما يتعلق بالطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، فهم يبالغون في آثارها بشكل كبير. مثلاً، تجدهم يذكروا أرقام الطاقة الاستيعابية دائماً لأنها كبيرة، وغالباً ما يتجاهلون كمية التوليد، وهي صغيرة مقارنةً بالطاقة الاستيعابية. وعندما ترتفع أسعار الغاز والكهرباء بشكل كبير، يتجاهلون حقيقة مهمة وهي أن هذا الارتفاع ناتج من توقف الرياح.

بالنسبة إلى السيارات الكهربائية، يقدمون أرقام الانخفاض في الطلب على النفط، ولكنهم يتجاهلون أن هذا التقييم يفترض استبدالاً كاملاً لعدد الأميال، فقد ثبت بشكل قاطع أن استخدام السيارات الكهربائية أقل من سيارات البنزين، وأن عدد الأميال التي تُستخدم فيها السيارة الكهربائية أقل من سيارة البنزين. من خلال دراسة قام بها كاتب هذا المقال، تبين أن معدل الاستبدال في النرويج، وهي صاحبة أعلى “نسبة” سيارات كهربائية في العالم، هو 60 في المئة. يعني أن الإحلال غير كامل. السيارة الكهربائية تخفض الطلب على البنزين بنسبة 60 في المئة فقط، وليس 100 في المئة. ربما لأن السيارة الكهربائية هي السيارة الثانية. ويتجاهلون حقيقة أخرى وهي أنهم يفترضون أن كل سيارة كهربائية تباع في السوق تحل محل سيارة بنزين أو ديزل، ولكن الحقيقة أن جزءاً لا بأس به الآن يحل محل السيارات الكهربائية القديمة.
وللتندر، أذكر حادثتين حقيقيتين، الأولى أن جريدة كتبت في المانشيت العريض أن أفريقيا تتحول إلى السيارات الكهربائية. والمحتوى يتكلم عن سيارة واحدة وشاحن واحد بالقرب من مقر الحكومة في الموزمبيق.
الخبر الثاني يتكلم عن مدينة أميركية تتحول للحافلات الكهربائية لأنها اشترت 8 حافلات كهربائية. الخبر تجاهل تماماً بقية القصة: المدينة اشترت 300 حافلة، منها ثمانية كهربائية والباقي كلها ديزل.

المسيرات الأوكرانية والمصافي الروسية

لا أحد ينكر أن المسيرات الأوكرانية ضربت العديد من المصافي الروسية وخفضت من إنتاجها، ولكن بعض المؤسسات الإعلامية الغربية تجاهلت العديد من الحقائق ولجأت إلى أسلوب قديم في التضليل: بعض المصافي كبير جداً ويمتد على مساحات واسعة. المسيرات تضرب وحدة أو وحدتين في المصفاة، ولكن وسائل الإعلام لا تقول ذلك. وسائل الإعلام تعطيك الطاقة التكريرية الكلية للمصفاة. مثلاً، 360 ألف برميل يومياً. الإيحاء هنا بأن الضربة الأوكرانية قوية وآثارها ضخمة. وسائل الإعلام لا تقول لنا نسبة التشغيل في المصفاة، وما إذا كان الوحدات التي ضربت شغالة أصلاً أم لا أو ما إذا كان تحت الصيانة، مثلاً. ولو نظرنا إلى أرقام الصادرات، لاستنتجنا مباشرة مقدار المبالغات في الإعلام الغربي. فالصادرات لم تتأثر بالشكل الذي توحي به وسائل الإعلام. المثير في الأمر أن حكومة بايدن طلبت من الأوكرانيين التوقف عن ضرب المصافي الروسية لأنها لا تريد ارتفاع أسعار البنزين والديزل قبل الانتخابات الأميركية. الأمر الذي لم تذكره وسائل الإعلام ولن تذكره هو أن توقف بعض الوحدات في المصافي عن تكرير النفط يعني زيادة صادرات النفط الخام.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى