رأي

ماذا بعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية

كتب أسامة رمضاني في صحيفة العرب.

فكرة حل الدولتين تكتسي رمزية عميقة لكن مفعول هذه الرمزية سوف يكون محدودا إن لم ينل القادة العرب فرصتهم للجلوس حول مائدة الحوار مع ترامب لمناقشة سبل تفكيك ألغام الشرق الأوسط.

لم تكن فكرة حل الدولتين كأساس لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي غريبة على الأجيال التي تربت على خطب ومواقف الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس.

لخص هذه المواقف الخطاب الذي ألقاه في 3 مارس 1965، في مدينة أريحا بالضفة الغربية، التي كانت أيامها تحت سيطرة الأردن.

خالف بورقيبة التوجه السائد آنذاك، منتقدا الرفض العربي لخطة التقسيم لعام 1947. وانتقد “سياسة الكل أو لا شيء”، التي قال إنها “أوصلتنا إلى الهزيمة في فلسطين، وأوصلتنا إلى الوضع المحزن الذي نعاني منه اليوم.” وحذّر الزعيم التونسي الراحل من أن الاستمرار في هذا الموقف سيضع الفلسطينيين والعالم العربي في “طريق مسدود” لسنوات عديدة قادمة.

وقد أثار موقف بورقيبة أيامها استنكارًا واسع النطاق خلال فترة كان فيها العالم العربي تحت سيطرة أفكار جمال عبدالناصر، الرئيس المصري. لكن الرئيس التونسي الراحل لم يتراجع أبدا عن أفكاره، وخاصة التزامه بالشرعية الدولية كأساس لتسوية سلمية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

لسبب ما، لم يسعني هذه الأيام إلا أن أتذكر تمسك بورقيبة العنيد بالشرعية الدولية كمفتاح لأيّ حل عادل للقضية الفلسطينية.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، وفي خضم الحرب الإسرائيلية في غزة تسلط الاهتمام مجددا على حل الدولتين. سجلت الساحة الدولية ما أسماه نمرود نوفيك، كبير المستشارين السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، بـ”تسونامي دبلوماسي” يرسم الطريق أمام اعتراف العالم بدولة فلسطين.

هذا الزخم الجديد غذّته إلى حد كبير حملة دبلوماسية أطلقتها فرنسا والسعودية وأدت إلى تتالي التعهدات بالاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة.

ومن المرجح أن تبلغ هذه الديناميكية ذروتها في سبتمبر المقبل مع انضمام العديد من الدول الغربية إلى صفوف المعترفين بالدولة الفلسطينية. ومن بينها بالإضافة إلى فرنسا بريطانيا وأستراليا وكندا وفنلندا ومالطا ولوكسمبورغ والبرتغال ونيوزيلندا وربما دول أخرى.

أحيت هذه الديناميكية أيضا الكلام عن الشرعية الدولية كإطار تاريخي للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

ففي معرض دفاعه عن حل الدولتين، أشار وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، عشية مؤتمر نيويورك الشهر الماضي إلى قرارات الأمم المتحدة العديدة التي بقيت حبرا على ورق.

وقال بعد أن عدّد أرقام هذه القرارات الأممية “هذه ليست أرقامًا على الورق، بل هي تعبير عن قناعات عالم أصابه الإحباط.”

ومن اللافت أن لامي أشار أيضًا إلى أن وعد بلفور الذي أطلقته المملكة المتحدة قبل 108 أعوام كأساس لإنشاء الدولة اليهودية تضمّن أيضا تنصيصا على ضرورة “عدم القيام بأيّ شيء، أيّ شيء قد يمس بالحقوق المدنية والدينية” للشعب الفلسطيني.

وعبّر لامي عن أسفه لعدم العمل بهذا التعهد “لم يُحترم ذلك ممّا يشكل ظلما تاريخيا ما انفك يتجلى لنا.”

عارض بعض منتقدي لامي من المحافظين في المملكة المتحدة دفاعه عن الدولة الفلسطينية، بحجة غياب الشروط الأساسية لقيام هذه الدولة.

وتغافل هؤلاء عن أن فكرة الدولة الفلسطينية تعكس إرادة الغالبية العظمى من المجتمع الدولي. وقد طفت اليوم بقوة على السطح لأن مقومات تحقيقها أضحت مهددة بشكل جوهري نتيجة التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وتهديدات حكومة بنيامين نتنياهو بضم أجزاء من غزة والضفة الغربية ما يثير مخاوف جدية من أن تصبح الدولة الفلسطينية “مستحيلة جغرافيًا.” وقد دفع ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول إن “حل الدولتين أضحى أبعد من أيّ وقت مضى.”

المأزق الدبلوماسي الحقيقي الذي لا يمكن تجاهله هو تراجع مؤشرات التواصل الفاعل بين الدول العربية وواشنطن، باستثناء ما يجري من وساطات من أجل الهدنة

لكن الخطر اليوم أن تصبح الديناميكية الجديدة تبرئة للذمة بالنسبة إلى دول غربية لا تريد أن تتهم بالتواطؤ مع إسرائيل في حرب غير متكافئة في غزة بعد أن تزايدت الاحتجاجات عبر عواصم العالم بشكل غير مسبوق على الموت والدمار والقتل العشوائي وصور الأطفال وهم يتضورون جوعًا.

بل إن بعض الشخصيات البارزة والمدافعين عن حقوق الإنسان في إسرائيل ذاتها وصفوا الحرب التي يشنها جيش بلادهم في غزة بأنها “إبادة جماعية.”

لا يجب أن تصبح ديناميكية الاعتراف بالدولة الفلسطينية غاية في حد ذاتها. بل ينبغي أن تسهم بشكل ملموس في الدفع نحو سلام عادل ودائم في المنطقة يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني.

في الوقت الحالي لن تكفي هذه الديناميكية لزرع بذور الأمل لدى الشعب الفلسطيني حتى يتجاوزوا الشكوك التي كانت تراودهم حسب استطلاعات الرأي حول حل الدولتين.

كما أن الواقع يقول إن الزخم الحالي سوف يكون بلا معنى إن لم يغيّر من مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل.

مازال هناك ضوء أخضر من الإدارة الأميركية للحل العسكري الإسرائيلي رغم تبعاته المأسوية في غزة، لكن استطلاعات الرأي، ومنها الاستطلاع الأخير لرويترز – إيبسوس، تشير إلى تشكّل أغلبية لدى الرأي العام الأميركي تدعو إلى اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية وتصف الموقف الإسرائيلي بأنه “مشط”.

ومن غير المحتمل أن تلين مواقف حكومة نتنياهو في المستقبل المنظور. وما زال رئيس هذه الحكومة في حاجة إلى وقت حتى ينزل من الشجرة ويستوعب تغير المناخ الدولي. وبالعكس تتعالى دعوات المتطرفين النافذين في هذه الحكومة إلى المزيد من الاستيطان بل إن نتنياهو أضحى يصرّح بتعلقه الدفين بحدود “إسرائيل الكبرى.”

أكيد أن فكرة حل الدولتين تكتسي رمزية عميقة سوف يرحب بها العرب، بالإضافة إلى كونها تشكل على المدى البعيد البديل الوحيد عن الحرب والدمار.

لكن مفعول هذه الرمزية سوف يكون محدودا جدا إن لم تصمت أصوات القنابل والمدافع في غزة قريبًا، ولم ينل بعد ذلك القادة العرب فرصتهم للجلوس حول مائدة الحوار المباشر مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمناقشة سبل تفكيك ألغام الشرق الأوسط، مثلما جلس نظراؤهم الأوروبيون في البيت الأبيض منذ أيام ينشدون تسوية تطابق مصالحهم للنزاع بين روسيا وأوكرانيا، ولهم ما يكفي من الأوراق التي يمكن أن يلعبونها ومن المصالح التي تستحق الدفاع عنها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى