رأي

مؤتمر فلسطينيي الخارج من الشعبي إلى الحزبي

كتب مالك عزام في “العربي” الجديد”:

عقد مؤتمر فلسطينيي الخارج دورته الثانية في إسطنبول الأسبوع الماضي، بعد خمس سنوات من الأولى التي عقدت في المدينة نفسها. وأيضاً بدت السمة الشعبية غالبة، ولو نسبياً في الدورة الأولى، على حساب الحضور الحزبي مع مشاركة ستة آلاف عضو، بينما غابت تماماً عن هذه الدورة لصالح ليس النخبوية، كما قيل، ولكن الحزبية الصارخة مع الادّعاء أنه غير مفتوح للعوام، على الرغم من أنه جرى بحضور ألف مشارك من 50 دولة تقريباً.

إذن، عقدت الدورة التأسيسية الأولى للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج قبل خمس سنوات بحضور ستة آلاف مشارك، حيث بدت آنذاك أقرب إلى المهرجان منها إلى المؤتمر أو الإطار المؤسساتي وعاد ذلك أساساً إلى رغبة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي كانت ولا تزال عرّابة وراعية وصاحبة المؤتمر في إطلاقه بأوسع صدى وحضور ممكن مع تعمّد وصفه بالشعبي، وأيضاً لنفي الصفة الحزبية عنه. ومن هنا أيضاً، أمكن فهم ذلك العدد الكبير من الحضور.

استند المؤتمر ولا يزال إلى فكرة أو قاعدة كيفية حلّ معضلة انخراط فلسطينيي الخارج في الشأن والهم الوطني العام، بعد تهميش منظمة التحرير وإضعافها وفقدان دورها وطنا معنويا وإطارا مرجعيا أعلى للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده المختلفة لصالح سلطة الحكم الذاتي المحدود في رام الله، إلى درجة أن مصطلح المواطن الفلسطيني، بدا على الأقل رسمياً منذ اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة قبل ثلاثة عقود، كأنه محصور أو مقتصر على فلسطينيي الضفة الغربية وغزة وحتى بدون المقدسيين الذين تركوا لمصيرهم بعد تهميش المنظمة وتهشيمها تماماً كفلسطينيي الخارج.

من هنا، جرت مناقشة ملف منظمة التحرير أو للدقة معضلتها مع حذر في طرح فكرة البديل التي جرى الحديث عنها ضمنياً، ثم جرى تجاوز الملف برمته، وعاد ذلك أساساً إلى رغبة الرعاة في تأسيس المؤتمر وإطلاقه بأقل قدر من الأزمات وردود الفعل السلبية، كما لاستقدام أو استقطاب شخصيات مستقلة لضرورات التأسيس بخلفيات وطنية يمينية أو يسارية (لا إسلامية)، وهم يحملون حساسية فائقة تجاه منظمة التحرير، كونهم ساهموا مباشرة وكانوا أصلاً جزءاً من تاريخها وإنجازاتها وانتصاراتها وانكساراتها أيضاً.

غلبت السمة الحزبية على هيئات المؤتمر القيادية، بما في ذلك الأمانة العامة، ولكن مع حرص بدا مبالغا فيه أحياناً

إضافة إلى ما سبق، ثمّة معطى مهم آخر ساهم في التعاطي بنعومة مع ملف المنظمة، كون عربة المصالحة والحوارات لإنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس، كانت لا تزال على السكّة، بل وكانت في طريقها إلى اكتساب زخم إضافي مع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة بداية العام نفسه، وتواتر الحديث عن صفقة القرن التي اتحد الفلسطينيون ضدها منذ اللحظات الأولى، لفهمهم المحق أنها أداة لتصفية قضيتهم، لا حلها حلاً عادلاً شاملاً ومستداماً من أجل إزالتها تماماً عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي.

لذلك، شهدنا في العام نفسه انطلاق مرحلة جديدة من الحوار الفلسطيني وجولات متعدّدة ومتنقلة ما بين القاهرة وبيروت وإسطنبول، بما في ذلك عقد لقاء الأمناء العامين للفصائل في بيروت متأخّراً 15 عاماً تقريباً عن موعده وفق وثيقة المصالحة التأسيسية – القاهرة مارس/ آذار – 2005، وصاحبت تلك الجولات آمالٌ عريضةٌ بالذهاب إلى إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة لإنهاء الانقسام، وقبل ذلك وبعده، إعادة بناء منظمة التحرير بشكل ديمقراطي شفاف ونزيه، لممارسة دورها الطبيعي وطنا معنويا للفلسطينيين وبيتا جامعا لهم في أماكن وجودهم المختلفة.

على الرغم من كثافة المشاركة في الدورة الأولى وحضور معقول للمستقلين ضمن العدد الكبير أصلاً، إلا أن السمة الحزبية غلبت كذلك على هيئات المؤتمر القيادية، بما في ذلك الأمانة العامة، ولكن مع حرص بدا مبالغا فيه أحياناً، خصوصا في المرحلة التأسيسية على تقديم شخصيات مستقلة، حتى لو كانت متقدمة جداً، بل وطاعنة في العمر، ومن جيل قادة السلطة والمنظمة نفسه، في تناقض صارخ مع خطابات الإصلاح والتغيير للمعارضة تحديداً إضافة إلى تغييب دور الشباب، رغم حضورهم اللافت أيضاً ضمن العدد الكبير للمشاركين.

الانتخابات شكلية ومعلبة، ولم تشهد منافسة جدّية، وجرى التوافق مسبقاً من الجهة الراعية على الفائزين في انتخابات الهيئة والأمانة العامة

خلال السنوات الخمس الماضية، بدا المؤتمر إطارا أو عنوانا شعبيا فقط. وعلى الرغم من كل ما قيل عن تفعيل دور فلسطينيي الخارج وانخراطهم في العمل والهم العام، إلا أن ذلك كله ظلّ في العموم حبراً على ورق، مع اكتفاء قيادة المؤتمر بإصدار البيانات في المناسبات والمستجدّات الوطنية العامة. أما حضوره المؤسساتي، فكان خجولاً جداً، ويكاد يكون غير ملحوظٍ أصلاً، وسط فلسطينيي الخارج، حيث لم نر نشاطا جدّيا بينهم، ولو حتى لإحصائهم وتسجيلهم تحضيراً لانتخابات محتملة. وبالتأكيد، لم يجر الاهتمام والسهر على حل مشكلاتهم حيثما أمكن. وعموماً، اعتمد المؤتمر في نشاطاته المحدودة أصلاً على هيئاتٍ نقابية وأطر حزبية تعمل بلافتاتٍ متعدّدة، ووجودها كان سابقاً على تأسيس المؤتمر نفسه. وفيما يتعلق بمعضلة منظمة التحرير والعلاقة معها، حرص المؤتمر على التأكيد مراراً أنه ليس بديلاً عنها، مع الدعوة العامة طبعاً إلى إعادة بنائها وإصلاحها، ولكن من دون الحديث أو التطرّق أو حتى طرح أفكار عن البديل تلميحاً أو تصريحاً. وعلى الرغم من تصريحات عرّابيه، إلا أنه بدا كذلك جزءا من الانقسام الوطني العام وأحد تجلياته، لا خطوة باتجاه إنهائه.

اختلف الأمر تماماً مع الدورة الثانية للمؤتمر التي غابت عنها السمة الشعبية، وبدا الحضور حزبياً صارخاً مع استثناءات قليلة ومعدودة، تثبت القاعدة في الحقيقة ولا تنفيها. كان الحرص واضحاً أيضاً في السياق على تقديم شخصيات مستقلة معدودة، حليفة وحليقة، ولكن ضمن حضور حزبي إسلامي طاغ من لون واحد على هياكل المؤتمر كافة، وبدا الأمر أحياناً وكأنه استنساخ لفكرة النصف زائد واحد لكن بمشاركة مستقلين، لا فصائل وحركات أخرى. أما الانتخابات التي جرت فقد جاءت شكلية ومعلبة، ولم تشهد منافسة جدّية، وجرى التوافق مسبقاً من الجهة الراعية على الفائزين في انتخابات الهيئة والأمانة العامة، بينما جرى التجديد لرئيس المؤتمر، حتى من دون إجراء انتخابات ولو شكلاً.

قصة المنظمة والبديل كانت حاضرة بقوة هذه المرّة، وارتفعت اللهجة، خصوصا مع تعثر عملية المصالحة وحوارات إنهاء الانقسام، بل وموتها سريرياً، إثر هرب الرئيس محمود عباس من الحزمة الانتخابية، والمجاهرة وعدم الخجل من ابتلاع المنظمة رسمياً لصالح سلطة الحكم الذاتي المحدود. ووصل المؤتمر في دورته الثانية إلى حد مطالبة الفصائل والقوى، بما فيها الكرتونية والهامشية، في لبنان وسورية، بتشكيل جبهة قيادية تشكل عملياً بديلاً قيادياً من أجل الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.

على الرغم من العدد الكبير نسبياً من المشاركين والصخب الإعلامي المصاحب، إلا أن المؤتمر بدا تعبيراً مدوياً عن الفراغ القيادي الفلسطيني

وبناء عليه، نحن أمام تحوّل صريح في مهام المؤتمر شكلاً ومضموناً، ارتباطاً بالواقع وموت عملية المصالحة، ووصول جهود إنهاء الانقسام إلى طريق مسدود، كما التحولات داخل الجهة الحزبية الراعية (حركة حماس)، وانتهاء الفراغ القيادي الذي ساد في الخارج خلال السنوات الخمس الماضية.

وفي العموم، بدت هذه الدورة أيضاً تعبيرا عن الانقسام، لا خطوة باتجاه إنهائه. وعلى الرغم من العدد الكبير نسبياً من المشاركين والصخب الإعلامي المصاحب، إلا أنه بدا تعبيراً مدوياً عن الفراغ القيادي الفلسطيني، لا خطوة باتجاه ملئه وإنهائه، وهو حتماً لن يكون بديلاً عن المنظمة ومؤسساتها، على الرغم من أن هيئاته الثلاث، المؤتمر نفسه والهيئة والأمانة العامة، تشبه تماماً نظيراتها في المجلسين، الوطني والمركزي، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ويفترض أن تتشكّل الجبهة الوطنية المستهدفة من فصائل بعضها ميّت سريرياً، وهي على علاتها لن تبصر النور، وهذه أصلاً ليست من مهام المؤتمر المفترض أنه شعبي، ويجب أن يظل كذلك لإتاحة المجال أمام الفلسطينيين في الخارج، للتعبير عن مواطنتيهم وتمسّكهم بحقوقهم وآمالهم الوطنية المشروعة.

في الأخير وباختصار، وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن الاستنتاج أن السنوات الخمس المقبلة لن تختلف جذرياً عن سابقاتها، وقد يزيد حضور المؤتمر نسبياً ضمن زيادة حضور “حماس” وعودة الحياة والحيوية إلى مؤسساتها في الخارج، لكن سيبقى غالباً مع بيانات في المناسبات والأحداث العامة، ومعتمداً وبشكل رئيسي على هيئات وأطر حزبية فعالة وناشطة أصلاً، حتى قبل تأسيس المؤتمر نفسه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى